مسيرة سلمية

ذات صباح جمعة روتيني من صباحات الخرطوم الفاترة، خرجت مبكراً على غير عادتي أيام الجمع، و بما أنني مدمن على شراب الشاي و خصوصاً شاي الصباح فإن تفويت أي رشفة منه سوف يصيب رأسي بالصداع و يخرب افكاري و بالضرورة يومي،اشتريت جرائدي اليومية المفضلة و لم آلوا كثيراً حتى توجهت صوب إحدى ستات الشاي و هي امرأة طاعنة في السن لا تقل عن الستين عاماً، بادأتها بالتحية فردت عليّ بأجمل منها و هي مبتسمة و تفرد وجهها البشوش المرحب تجاهي.

جلست في احدى مقاعدها الجميلة و خاطبتها: بالله واحد شاي سادة يا والدة.

ردت مهللة بإبتسامتها العذبة: حاضر يا ولدي.

و بينما أنا أطالع جرائدي و هي تعد الشاي فكرت أن استطلع رأيها حول الزيادات في الأسعار الأسبوع الماضي: ما قلتي لي يا والدة السكر أسعارو كيف معاكم؟

تجهم وجهها قليلاً و هي تقول بلكنة الغرب المحببة: هي يا ولدي و الله الجمعة دي فكرنا نمرقو كلنا ستات الشاي و نكتب يافتة عريضة و نمشو مسيرة!!!

اندهشت من قولها و من تفكيرها و كيف أن أدوات النضال السلمي و الاضرابات و المسيرات ليست حبيسة اضابير أحزابنا الكسيحة و ليست وسيلة منظماتنا الكسولة فقط، هي مفهوم نضالي عند امرأة بسيطة تدافع به عن حقها في كسب العيش.

سألتها: تمشو لي وين يا والدة؟

ردت بي حماس: نمشو في شارع الزلط دا انشاء الله نصل القصر الجمهوري!!!

حاولت أن أتحسس فهمها لعواقب هذا الأمر و هل تدرك مآلاته: لكن بخلوكم يا حاجة؟

ردت غير ملتفتة و لا هيابة: انشاء الله يكتلونا كلنا مش مارقين في حقنا.

يا للهول نظرت نحوها متشككاً، و كأنما ادركت نظراتي أردفت قائلة: و الله يا ولدي نحنا النساوين ديل كعبين خلاس، انتو الواحد بعاين فينا و بقول دي مرة ساكت، لكن و الله نحنا كان قمنا صعبين خلاس، الواحدة فينا بس بتستحمل و تسحمل لكن لو قامت ما بتخاف من زول الا الله!!!

يا الله!!! انتابتني عواطف جياشة و مرت براسي خواطر عميقة منذ نضالاتنا أيام الجامعة و حتى مبادرة لا لقهر النساء، مرت برأسي خاطرة اول مرة أخرج فيها مظاهرة ضد اتحاد الكيزان و كيف أنني كنت أعزلاً أثناء مخاطبة تحالف القوى الوطنية.

سحبتني ليلى على جنب و هي تسألني بحرص: هل تحمل سلاحاً: أجبت بتوتر: لا!!!

فتحت حقيبتها و أخرجت لي سكيناً دستها في يدي: أمسك!! و عندما لاحظت ترددي نظرت في عيني بقوة أغننتني عن كل تعبير، تذكرت ريهان و هيام و أريج و أسماء و هبة و غيرهن من زميلات النضال من الطالبات المحفورات بعمق في الذاكرة.

تذكرت زهرة حيدر في بواكير نشاطي في المجتمع المدني و أنا أشكو من مشقة العمل:

انت عارف يا سامي انو النسوان بتحملو أكتر من الرجال؟ سألتها: كيف؟

قالت لي لأن المرأة تعودت القهر و العنف و هي تسحب العنف نحو الداخل حتى صار جزءاً من تركيبتها و لذا فهي أكثر تحملاً للعنف.

طردت ملهمتي ست الشاي افكاري فجأة و هي تقول: تفضل يا ولدي. نظرت إليها ممتناً و أنا أقول قلتي لي صعبات يا والدة.

قالت لي بحماس أكبر: و الله يا ولدي يوم الحارة داك نربطو صلابينا و نمرق.

سألتها بدهشة: يوم الحارة؟؟!!

أردفت يا ولدي الله لا جابو و الله الواحدة فينا تربط توبا في صلبا و في راسا و ما همانا كان نحيا كان نموت!!!

غرقت في بحر تأملاتي و أنا أشغل اغنية صباح الخير لعقد الجلاد:

تحيي تعيشي لا مقهورة لا منهورة...

لا خاطر جناك مكسور يا مستورة...

بل مستورة....

يا مستورة

أحداث هذه القصة و الحوار الذي جرى فيها واقعية حتى بتأملاتها.


كتبت في 14 فبراير 2009م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جدلية المركز والهامش وإشكال الهوية في السودان

رساله من الشاعر مختار دفع الله الي المواطن ابراهيم الشيخ

نساء على دروب العباقرة