الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

القانون والعدالة بين اب كرفتة وقدوقدو ..! (2)


لبني أحمد حسين

December 17, 2010  
قررت الخروج من السودان يوم أطلق سراحى بعد قبضى لساعة واحدة من قبل   ثلاث رجال شرطة بأمر ضابط أمن من جوار ست شاى بتهمة ” التصوير فى منطقة عسكرية “، صحيح  كان معى مصور صحفى  ولكن  يشهد الله اننى لم أكن اعلم ان ست الشاى  يمكن أن تكون منطقة عسكرية  يوقعك تصويرها  تحت طائلة القانون ، الا حينما  تلى الضابط  المناوب بعد وصولى القسم  نص مادة  بالقانون فوجدت  بالفعل ان   تصوير ست الشاى  او سيد اللبن  او “اى  موقع يمكن أن يكون تصويره بأى وجه مفيداً للعدو أو لأى شخص خارج على الدولة “حسب ما تنص المادة 57 من القانون الجنائى السودانى  طالما رجل الشرطة يرى او يريد ذلك ، فهو الذى يقرر/يخمّن  فائدة صورك ولو كانت مع ست شاى ، وهو الذى يحدد العدو المحتمل ، بعد موبايلات ومكالمات أجراها  الضابط المناوب وانسحاب ضابط الامن دون ان يترك اسمه .. أطلقت الشرطة  سراحى دون توجيه اتهام ..وأنا أهزّ الكتفين وارفع الحاجبين دهشة !..
اذا كانت ست الشاى – ومن يكذب روايتى ليسألها وهى تجلس حتى الآن جوار معهد سلتى بالخرطوم – يمكن ان تعتبر منطقة عسكرية وهو ما لا يمكن ان يخطر ببال  مواطن  عادى .. فماذا ايضاً ؟ ماذا  تظنون مكان الدعارة ؟ ..
كاتبة هذه الاسطر  ممن يعدّ الدعارة جريمة  وهى هكذا فى كثير من الدول الاوربية ومواثيق الامم المتحدة التى تحرم وتحظر الاتجار بالجنس وادارته .. ولكن ماهى الدعارة ؟ فى الحقيقة  تحتاج  مصطلحات ومسميات  قوانين الانقاذ التى تسميها شريعة الى قواميس مرافقة او كتلوج  لتوضيح المعانى التى  تريدها  لان المفاهيم المتعارف عليها  بعيدة كل البعد عن المسميات الذى تطلقها ..
عليك ان تقرأ البند 2 من المادة 154 من القانون الجنائى السودانى سئ السمعة  لتأسى على أعراض المسلمين ، أهى سهلة ومستباحة  لهذه الدرجة ؟ ولا اقول المسلمين  تحيّزاً ،حاشا، ولكن واقع الحال ، فقد  دخلت  سجن ام درمان  و ما رأيت  غير المسلمات مدانات  بتهم الدعارة  وادارتها ..
فما هى المادة  154والمواد الاخرى التى تلقى ببنات ونساء المسلمين دون غيرهم فى غياهب السجن وتلهب ظهورهنّ بالسياط ؟ وليحملنّ  صفة مومس وداعرة الى الابد ..
لنستغفر الله  اولاً  ونتعوّذ به عن رمى المحصنات .. الذى يحسبونه هيّن وهو عند الله عظيم ، فبمثلما  ان ست الشاى ” يمكن ” ان تكون منطقة عسكرية يفيد  تصويرها العدو وان ارتداء البنطال” افعال فاضحة ” أدينت بموجبها  كاتبة هذه الاسطر حسب  المادة 152 من ذات القانون ، ولعمرى ان ادانة كهذه ليست لى حتى لو أدنت  بقتل رقبة  انما ادانة لنظام الحكم ولمحاكمه المسماة  نظام عام وميزانها ذو الكفة الواحدة  الذى لا يعطى لمتهم فرصة للدفاع عن نفسه،فهناك صف طويل من المواد  151و153و154و155 صالحة لاتهام اى  شخص فى اى زمان واى مكان طالما  الشرطة  التى تسمى النظام العام  تريد ذلك ..
وطالما  المحكمة ايجازية  وليس  للمتهم فرصة للدفاع عن نفسه  فماذا تقول المادة 154؟
: يعد مرتكباً جريمة ممارسة الدعارة، من يوجد فى محل للدعارة بحيث يحتمل ان يقوم بممارسة افعال جنسية او يكتسب من ممارستها ، ويعاقب بالجلد بما لا يجاوز مائة جلدة أو بالسجن مدة لا تجاوز ثلاث سنوات.
عليك  بوضع خطين تحت كلمة يحتمل ، ومن حقك كمواطن ان تعرف هذه الاحتمالات  لتتجنبها .. فما هى هذه الاحتمالات حتى لا يكون اى منا  “داعر متوقع”  فتلهب  السياط ظهره بسبب التوقع لا بسبب الفعل  ؟ ومن الذى يقرر ان هذا الشخص يحتمل ان يقوم بممارسة افعال جنسية وذاك لا ؟ أنه  رجل الشرطة النظام العام الذى جئ به لتطبيق شرع الله وهو الذى قد لا يعرف كيف يتطهر من بوله .. والذى قد لا يعرف  كتابة اسمه.. و هو الذى “يرجح” ويضع “احتمال “ان هذا الشخص سيقوم بممارسات جنسية وذاك لا.. عموما الطب يقول ان  الرجل الذى  احتمال  قيامه بالفعل الجنسى  صفر  هو  عاجز  جنسياً ، هذا ابتداءاً ، وليس انتهاءاً  ، من حقك ان تستنكر  تواجد  الشريفة والمحترمة فى مكان مشبوة ، ولكن  لا تضللّنك او تغرّنك  جملة “من  يوجد فى محل دعارة “..فليس المكان  هو ما يتبادر لذهنك ، ولكن للانقاذ قاموس فريد .. لنرى ما هو تعريفها  لمحل الدعارة ؟ حسب المادة 154-2
(2) يقصد بمحل الدعارة ، اى مكان معد لاجتماع رجال ونساء او نساء  ورجال  لا تقوم بينهم علاقات زوجية او صلات قربى وفى ظروف يرجح فيها حدوث ممارسات جنسية.
وحسب هذا التعريف اى مكان سواء كان صحيفة او مكتب او بيت اسرة  او حتى القصر الجمهورى يمكن ان يكون محل دعارة ، وانا هنا لا أغمز لحادثة  القصر التى  تهامست بها المدينة ، ولكن أوليس فيه  رجال ونساء ليس بينهم  علاقات  زوجية ولا صلة قرابة ؟ ثم  ما هى الظروف التى” يرجح ” فيها حدوث ممارسات جنسية ؟ ونحن نعلم ان مساجد الله التى يستبعد  ابغض خيال  منها حدوث شئ من هذا القبيل  فيها يتم بها  اغتصاب للاطفال .. ثم من هو الذى يرجّح ؟ او لا يرجح ؟ وما هى هذه الظروف؟ لماذا  لا يذكرها  القانون صراحة..ويذكر احتمالات قيام الشخص بافعال جنسية ،حتى يتجنب اى مواطن يحترم القانون على علاته  مثل هذه  الاحتمالات و الظروف المرجحة التى توقعه تحت السياط ؟
يفترض ان الدعارة  هى الاتجار بالجنس او هكذا يفهم كل صاحب عقل ، لكن لقانوننا المحترم راى آخر  وعليه فان القانون يمكن ان يعتبر اى  “اختلاط ” دعارة ” وليته فعل مثل السعودية  و سمى  الاشياء بمسمياتها  ومنع الاختلاط  بالقانون أبى من أبى ورضى من رضى  لكنه زاد على ذلك  بتشويه سمعة  وقذف  من يقعون  تحت رحمة هذا القانون  الذى لا يرحم . . سورة  النور  تحدثنا  عن حادثة الافك ، التى تورط  فيها ليس اربعة اشخاص انما عصبة – والعصبة هى جماعة ما بين العشرة والاربعين – لم يكونوا كلهم منافقين فقد كانت فيهم  ابنة عمة  النبى  ص  وكان فيهم اقارب لعائشة رض نفسها وكان فيهم  حسان شاعر الرسول  والناطق الرسمى حسب توصيف هذا العصر ، وكما تحدثنا  الاحاديث لم  يكونوا  كلهم  على عداء بالاسلام او عائشة .. الكثير منهم  خاض فى  الامر من باب ” الشمار “  فى أمر يحسبونه هيّن وهو عند الله عظيم .. اذا طبقنا المادة 154 على  حادثة الافك  وقصة  ام المؤمنين رضى الله عنها وصفوان .. ماذا تكون النتيجة ؟ رجل وامرأة ليس بينهم صلة قرابة ولا زواج  فى مكان ليس به بشر .. ابن سلول كبير المنافقين   ” رجّح احتمال  ” قيامهم بممارسات جنسية  لان المكان و “الظروف” كانت ملائمة لذلك حسب ظنه السئ ، ورددت الجوقة /العصبة  هذا الافك من باب الكيد او من باب الشمار .. ونزل الوحى ليبرئ ام المؤمنين  ويطالب  الافاكين بأربع شهود  رأوا  باعينهم  ما  صوره خيالهم المريض  و احتمالاتهم   المرجّحه  لسوء الظن..و ليعاقبوا  بحدّ  القذف ويثنى  القرآن على المؤمنين الذين  عصمهم  “حسن  ظنهم  “عن الخوض فى ذلك ..
تقف  المادة 154 كنموذج  لافتراء أهل الانقاذ على دين الله  فلو كان دين الله هكذا   وأخذ  باحتمالات وظروف وترجيحات   -عصبة – سيئة الظن، وطبقت هذه المادة على  ام المؤمنين عائشة رض   وصفوان لجلدا   بدلاً عن جلد من جاءوا بالافك ..عليك ان ترجع للبند 2 من المادة 154 من القانون الجنائى السودانى  و أسقط  عليه حادثة الافك  التى جاء به  عصبة  فيها  مؤمنين  ليسوا  ممن  يبدلون  الجلدة الواحدة  ب30 جنية !.. اذن فالمادة 154 تقننّ  صراحة  للقذف .. حيث تعطى  شرطى النظام العام سلطة تحديد ” الظروف” التى “يحتمل” و”يرجح”  فيها حدوث ممارسات جنسية.. مثلها مثل المادة 152 التى ترمى ” بالفعل الفاضح ” اى فتاة  ترتدى ملابس  يعتبرها  رجل  الشرطة  “مضايقة للشعور ” حتى اذا كان بالمكان العام اربعمائة شخص من الرجال والنساء لم  تضايق  تلك الملابس شعورهم ..
جاءنى صحفى ومعه مصوّر لاجراء مقابلة معى اثناء  قضيتى ، وسألنى  ضمن الحوار  ان كانت هناك  مواد أخرى غير المادة 152  أرى انها  غير دستورية ؟  تبسمت  لحظة ثم قلت يا  زميلى  انتما الآن رجلين  وانا امراة  ارملة  وفى هذه اللحظة  ليس معى  بالبيت غير امى وهى امراة ايضاً وقريبتى شابة  وخفير  .. وهذا يعنى اننا  ثلاث نساء  وثلاث رجال  ليس بيننا  زواج ولا صلة قرابة ..مما يعنى  اننا  عرضة  لان  نكون  تحت المادة 154 وهى الدعارة اذا  رأى اى رجل شرطة  نظام عام ان هناك ” احتمال ” او “ظروف ” ترجح” ذلك  وبما  اننى صاحبة المنزل فاننى سازيد  عنكم بالمادة 155.. سألنى وما هى هذه الظروف والاحتمالات ؟.. قلت له انها  فى علم الغيب  وفى خيال ومزاج رجل الشرطة .. فما كان منه الا  ان لملم  اوراقه و قطع الحوار  ونهض بخوف  و قد كان جاداً ..
تذكرت  حينها ان بغرفة نومى لوحة فنية  ورثتها عن زوجى السابق  رحمه الله عبدالرحمن مختار  اشتراها من باريس  وقطع لها تذكرة طائرة بالدرجة الاولى لتصل الخرطوم.. هذه اللوحة  لفتاة عارية  تستر  نفسها بمنديل  ..  وهذا يوقعنى تحت طائلة  المادة 153  لاننى  أحوز لوحة يعتبرها القانون مخلة بالآداب العامة ، صحيح انها فى غرفة نومى ، ولكن  قانون و شرطة  تفتش موبايلات البنات لتجد صورة نور ومهند ابطال المسلسل التركى الشهير  فى مشهد  حميم  فيتم  جلد الفتيات اربعين جلدة  لكل .. الا يمكنها تفتيش  غرفة نومى لتجد هذه اللوحة ؟
نص المادة )من يصنع او يصور او يحوز مواد مخلة بالآداب العامة او يتداولها ، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز شهراً او بالجلد بما لا يجاوز اربعين جلدة كما تجوز معاقبته بالغرامة).
اما المادة 151 فانها الافك  والقذف بعينه  اذا  كانت بقية المواد تحوى كلمات فضفاضة  يمكن ان تتسع لكل شئ فان هذه المادة تضع سقفاّ  اعلى ، بينما  يظل الحد الادنى  مفتوحاّ  يحدده  مزاج  وخيال رجل الشرطة  ومن ثم القاضى .. تنص المادة  : 151- (1) يعد مرتكبا جريمة الأفعال الفاحشة من يأتي فعلا مخلا بالحياء لدى شخص آخر او يأتي ممارسة جنسية مع شخص آخر ، لا تبلغ درجة الزنا او اللواط ، ويعاقب بالجلد بما لا يجاوز اربعين جلدة  كما تجوز معاقبته بالسجن مدة لا تجاوز سنة او بالغرامة .
(2) اذا ارتكبت جريمة الأفعال الفاحشة فى مكان عام او بغير رضا المجني عليه ، يعاقب الجاني بالجلد بما لا يجاوز ثمانين جلدة كما تجوز معاقبته بالسجن مدة لا تجاوز سنتين او بالغرامة.
اى  قانون محترم يشير بالمعنى لذوى الالباب فى الامور التى تتصل بالجنس، ليس هناك داع لسرد انواع الافعال الجنسية  التى لا تبلغ درجة الزنا واللواط ، فللناس عقول،اتفقوا او اختلفوا فى استحقاق الامر لعقاب السلطان ام لا ،اتفقوا او اختلفوا فى  استحقاق  الفعل للتسمية  بالفاحشة ام لا ، قد ارى انا وانت ان المقصود هو  اشارة  لما كان يسميه الصحابة ” المفاخذة : اى تلاصق الافخاذ ” او المباشرة : احتكاك البشرة بالبشرة” وحتى هذه لم تقل  كتب البخارى ومسلم  ان لها عقاب  بالسوط او الحبس او التغريب ، وطبعاً لن تقول الغرامة ، لان الغرامة فيما يسمونه عقوبات شرعية انجاز  انقاذى بحت لا نجد له مثيلاً فى كتب  ما يسمونه  فقه ولا التأريخ الاسلامى منذ الرسالة ، انها شريعة قدوقدو  ..
وصحيح ان القرآن نهى عن الاقتراب من الزنا ” ولا تقربوا الزنا أنه  كان فاحشة وساء سبيلا ” ولكن الاية لم تذكر عقابا لمن اقترب ولم يزن ولم تسم الاقتراب فاحشة .. ولكن  لمن شرّع  القانون رأى .. اما لمن ينفذه من شرطيين قد لا يتطهرون من بولهم وقضاة  يصدرون  الاحكام  ولا يستمعون الى الدفاع لانهم  من نوع اب كرفتة ” مستعجلين ” لهم  اراء و آراء ..حيث ان وجود شاب  مع خطيبته  داخل كوفير به تسعة  نساء أخريات  لاختيار ثوب زفاف لزواجهما المتبقى له اسبوعان  فعل فاحش  ،  فتاة و خطيبها  او  حبيبها  يحتفلان  بحصول الشاب على وظيفة بعد سنوات من العطالة  فى  حدائق “حبيبى مفلس “  الفتاة  ” ضبطت ” وهى تناول خطيبها قطعة من التورتة بالشوكة فى فمه ، رجل الشرطة اعتبر ان هذا فعلا مخلا بالحياء العام  فكان عقابهما  بجريمة الافعال الفاحشة  ثمانين جلدة لكل  لان ” الفاحشة” تمت  بمكان عام ، قد يلفت مرور التورتة بالشوكة من يد الفتاة الى فم خطيبها  نظر البعض من الاسر المتواجدة  بالمكان و التى لم تألف هذه الحميمية  فى البيوت السودانية  فما بالك بالشارع ..
ولكن هل يستحق الامر ثمانين جلدة ؟  لن  يصدق  احد ان فعلهما “الفاحش” هو  تورتة محمولة بالشوكة ، وانهما كانا فى ” حبيبى مفلس “  بالقرب من ست شاى  يحيط بهما  عشرات المارة  والجلوس من الاسر والبشر كما  لا  احد  كان سيصدق ان فعلى الفاضح  الذى أخذتنى به شرطة  النظام العام لقسم  الديم  فى بوكس الكشة  هو  بنطال   وان القبض كان بمكان عام وان ام كلثوم  هو مطعم   محترم  يرتاده اهل الصحافة من الكيزان  وغير الكيزان  ..
لولا اننى  سارعت بطباعة  كروت دعوة .. وقد سأل  محامىّ شرطى النظام فى المحكمة : هل تعرف ام كلثوم ؟ قال لا .. لم نقبضها  معهم !..وأنتهرنى القاضى حينما ضحكت وضحك الحضور..
لا اكاد استوعب ان الذين وضعوا مثل هذا القانون  ونسبوه للشريعة يمكن ان يكونوا قد  قرأوا كتاب دين  ليوزعوا  المسميات “فاحشة” “فاضحة” “دعارة ” يميناً ويسار وليوقعوا  كل المجتمع من بعد ذلك فى اثم القذف و رمى المحصنات ..
وبعد ،،،
وبعد عشرين عاما من تطبيق هذه القوانين الحضارية  الى ماذا  قادتنا ؟ هل حققت ربط قيم اهل الارض بالسماء؟  او حققت المجتمع الرسالى ؟

الخميس، 22 سبتمبر 2011

نساء على دروب العباقرة


على هامش كتاب "الفاتنات الروسيّات: ملهمات غاويات"
الاحد 18 أيلول (سبتمبر) 2011
بقلم: هاشم صالح


ديكارت، سبينوزا، كانط، نيتشه…
وماذا عن المرأة؟ هل لها من وجود؟

ما هو دور المرأة في تحريك عملية الإبداع لدى الرجل الموهوب وبالأخص لدى العباقرة من الرجال؟ بشكل سريع يمكن القول بأن هناك موقفين اثنين للعباقرة من المرأة : إما الاهتمام الزائد، وإما الإهمال الزائد. فالعباقرة متطرفون في مواقفهم عادة على عكس الناس العاديين. فاذا ما نظرنا الى حياة كبار الفلاسفة من أمثال ديكارت او كانط وجدنا ان المرأة لا تكاد تلعب دورا يذكر. فديكارت كان متزوجا، لفترة قصيرة، من امرأة عادية تشبه الخادمة ولم تلعب أي دور في حياته العامة،أقصد الفكرية.ولكن يبدو انه كانت له مغامرات عديدة مع عشيقات ليس أقلهن أميرات!أما المسكين سبينوزا فقد أحب فتاة في مستهل شبابه ولكنهم رفضوه وزوجوها لآخر فلم يعد الكرة مرة أخرى وانطوى على حبه المغدور ككنز يغذيه مدى الحياة.وأما جان جاك روسو فقد عاش طيلة حياته مع امرأة لا يحبها وأحب امرأة لم يعش معها يوما واحدا بل ولم يلمسها..وأما ايمانويل كانط فلم تعرف له أي علاقة مع أي امرأة!..وهكذا كرس حياته كلها لبلورة تلك الفلسفة النقدية العظيمة التي سيطرت على الغرب منذ مائتي سنة ولا تزال.ويقال بأنه أعجب بامرأة مرة،ثم شغل عنها بتأليف أحد كتبه الهامة وغطس فيه كليا. وعندما استفاق من غيبوبته وأراد العودة اليها كانت "المحروسة" قد تزوجت منذ زمن طويل وأنجبت الأطفال!..صح النوم أستاذ! أين كنا؟ ويبدو انه عندما تقدم في العمر نسبيا وتجاوز الخمسين او الستين وأصبح مشهورا كان أشد ما يحرجه ان يطرح عليه هذا السؤال:لماذا لم تتزوج يا أستاذنا الكبير؟وكان يجيب عادة:عندما كنت شابا كنت فقيرا وغير قادر على القيام بواجب المرأة ومسؤولية العائلة.وعندما أصبحت مشهورا وقادرا على ذلك لم تعد لي رغبة في النساء.فقد كبرت في السن وتجاوزني القطار…وأما نيتشه التي "جننته لو أندريا سالومي" فقد أرسل لخطبتها صديقه "بول ري" ناسيا او متناسيا انه كان هو الآخر ايضا مغرما بها الى حد الوله بل وانتحر من أجلها!..وفي مرة أخرى أعجبته احداهن فأرسل لها أحد معارفه لمفاتحتها في أمر الخطوبة غير مدرك ان هذا الشخص بالذات هو خطيبها بل وحتى زوجها! ولكن من يستطيع ان يلوم نيتشه على مثل هذه الهفوات البسيطة؟ بصراحة نيتشه يحق له ما لا يحق لغيره..



ريلكه، الفريد دو موسيه:
الحب كعلاج، او كمرض لا شفاء منه…

وأما عن الشعراء والفنانين وعلاقتهم بالمرأة فحدث ولا حرج!..فالواقع انه نادرا ما تخلو حياة شاعر ما من هوى عاصف او حب مجنون.وكثيرا ما يلعب هذا الحب دورا كبيرا في الهام الشاعر وانطلاق عبقريته المكبوتة. يكفي ان نذكر هنا قصة ريلكه مع تلك الروسية الحسناء التي جننت نيتشه من قبل كما ذكرنا.فقد تعرف عليها في مطلع الشباب(عشرين سنة) وكانت هي امرأة ناضجة في الاربعين فحلت عقدته النفسية المتأصلة وأشعلت عبقريته كالحريق…
ثم هناك قصة ألفريد دو موسيه مع تلك الكاتبة المشهورة والمتحررة التي اتخذت اسم رجل من كثرة تحررها وميلها للتحدي والاستفزاز: جورج صاند.فقد أحبها حبا جما،وأحبته هي في البداية ايضا،ولكنها سرعان ما انصرفت عنه الى غيره فلوعت قلبه.وكان ينتظرها كل الليل لكي تعود من سهرتها ومغامراتها عند أول خيوط الفجر،فيتحسر عليها طيلة ساعات وساعات ويكتب بعضا من أجمل قصائد الشعر الرومانطيقي الفرنسي في القرن التاسع عشر:"ليالي موسيه".ذلك ان عذاب الحب مفيد للفنان فهو يشحذ العبقريات.بل ان النجاح في الحب قد يشكل خطرا على الابداع. فأهلا وسهلا اذن بالفشل والهجران..نشفوا دموعكم أيها الأصدقاء!..رب ضارة نافعة!صحيح ان الحب الفاشل يخلف وراءه أنقاضا وأطلالا،وربما خرائب على مد النظر،صحيح انه يدمرك تدميرا ويستنزفك تماما،صحيح انه "لا أبرد من حب مات" كما تقول رومي شنيدر.ولكنه يطهرك من الداخل تطهيرا، وينظفك تنظيفا،ويجعلك أفضل مما كنت عليه بألف مرة.أليس هذا مكسبا؟ انه يعمق انسانيتك ويتحول بمرور الزمن الى كنز دفين.الحب الفاشل بهذا المعنى هو اكثر أنواع الحب نجاحا في التاريخ! وعلى أي حال فان قصص الحب الكبرى نادرا ان تنجح.نجاحها يكمن في أنها حصلت وأججت النيران في الداخل. مجرد حصولها يعتبر معجزة. ليس في كل يوم تحصل قصة حب. ياريت! وعموما فان الحب بالضربة القاضية او بالضربة الصاعقة كما يقول الفرنسيون لا يحصل الا مرة واحدة في الحياة،هذا اذا ما حصل! ووحدهم النخبة المصطفاة ينالون هذا الحظ او ذاك الشرف الأعظم. انظروا دانتي وبياتريس،او بترارك ولورا،او قيس وليلى، او جميل وبثينة، او هولدرلين وسوزان، او روميو وجولييت، او ابن زيدون وولادة،الخ.. وفي العموم يمكن ان نطيل الحديث الى ما لا نهاية عن هذا الموضوع الغائر في الأعماق والأقاصي. ولكن يكفي أننا أزعجناكم بما فيه الكفاية..سامحونا!

الفاتنات الروسيات وعباقرة فرنسا

لكن لنتوقف قليلا هنا عند الحسناوات الروسيات اللواتي هاجرن الى فرنسا بعد الثورة البلشفية او قبلها بقليل بحثا عن الأمان والاطمئنان،ثم بحثا عن الحب والحرية، والشهرة والعباقرة.فقد فتحت الأرشيفات الروسية مؤخرا أمام الباحثين بعد سقوط الشيوعية،بل واستطاعوا التوصل الى ألارشيفات السرية لل ك.ج.ب أثناء تلك الفترة.وهي مليئة بالمعلومات والمعطيات عن شخصيات عديدة من فنانين وكتاب وشعراء وفلاسفة وحسناوات مغريات جاذبات.هذا ما يسرده لنا الكتاب الشيق الذي نثرثر على هامشه الآن بكل حرية.ويبدو ان بعض الجميلات الفاتنات لعبن دورا سياسيا او حتى مخابراتيا لصالح الأجهزة السوفياتية.(ما أجمل الجاسوسة الناعمة التي تنزلق بين يديك كالحرير وتسقيك السم والعسل في ذات الوقت! من منا لم يحلم، في هلوساته الغرامية،بعشيقات جيمس بوند وحسناوات الأفلام السينمائية؟هذا ناهيك عن فتيات القذافي!! لم أر أجمل منهن في حياتي..). وليس سرا على أحد ان ايلزا التي سلبت عقل أراغون وقلبه كانت متهمة من قبل الأوساط الفرنسية بأنها عميلة روسية. والواقع انها هي التي أدخلت زوجها في الحزب الشيوعي بعد ان كان سرياليا لا يعرف معنى الانضباط..وهي التي جعلته يوقع على بيان الانضمام الى المعسكر السوفييتي ويؤيده على طول الخط حتى بدون تفكير تقريبا.من قال بأن المرأة ليست قادرة على كل شيء؟ والشيء الذي يلفت الانتباه بعد الاطلاع على هذه الوثائق هو ان معظم عباقرة فرنسا في مطلع القرن العشرين او منتصفه كانوا متعلقين عاطفيا بروسيات.فهناك أولغا زوجة بيكاسو.وهناك غالا التي أحبت بول ايلوار قبل ان تقع في شباك سلفادور دالي.وهناك ايلزا التي ألهمت أراغون ديوانه الشهير:مجنون ايلزا.وقد أصبحت قصتهما شهيرة في الأوساط الأدبية الى درجة انه يمكن مقارنتها بمجنون ليلى في الأدب العربي.وهناك ليديا التي ألهمت الفنان الكبير ماتيس.وهناك مايا التي سلبت قلب رومان رولان الى درجة انه لم يتورع عن تقديم الولاء والخضوع لجوزيف ستالين.حقا ان الحب يعمي ويصم! ثم ينبغي الا ننسى زعيم الوجودية الفرنسية جان بول سارتر.فقد كانت له مغامرات عديدة من بينها قصة حب مكتومة او شبه سرية مع حسناء روسية تدعى لينا زونينا.وهي التي أهداها كتابه الشهير الذي يشبه السيرة الذاتية:الكلمات.ولكنه لم يذكر الا الحرف الأول من اسمها لكيلا ينصب عليه غضب سيمون دو بوفوار.فقال في الاهداء المختصر والغامض:الى السيدة ز…وطالما تخبط المعلقون والنقاد في شرح هذا الحرف "ز" ولمن يرمز دون ان يتوصلوا الى نتيجة.ذلك ان سارتر نجح في المحافظة على سرية العلاقة،ولم يكن يلتقي بعشيقته الروسية الا على شواطيء بحر البلطيق،او في زوايا العاصمة السوفييتية عندما كان يزور موسكو فتكلف بمرافقته رسميا وكأن شيئا لم يكن…
لكن لنتوقف قليلا عند علاقتين اثنتين:الاولى هي علاقة غالا ببول ايلوار ثم بسلفادور دالي،والثانية هي علاقة ايلزا بأراغون.

غالا
 من بول ايلوار
 الى سلفادور دالي…

عندما وصلت غالا الى باريس عام 1918 لكي تلتقي ببول ايلوار وتستقر في فرنسا الى الأبد كانت البلاد خارجة للتو من حرب مدمرة.وكانت الحرب العالمية الاولى تدعى بالحرب الكبرى او حتى المجزرة الكبرى.وقد شارك فيها ايلوار نفسه وجاء بالبزة العسكرية الى الكنيسة لكي يتزوج من تلك الفتاة الروسية التي أحبها.ولكنه كبقية أبناء جيله كان قد خرج محطما من تلك الحرب المروعة.فنادرا ما كان يخلو بيت فرنسي من قتيل او مفقود او جريح.ويمكن القول بأن الحركة السريالية التي انفجرت مباشرة تقريبا بعد الحرب العالمية الاولى بزعامة أندريه بريتون لم تكن الا رد فعل على تلك الحرب ومآسيها.فقد أراد الشباب الفرنسي في تلك الفترة ان يروّح عن نفسه،ان يتنفس الصعداء،ان ينسى مآسي الحرب وما رآه من فظائع في ساحات الوغى.فلم ير أمامه من وسيلة الا ان ينخرط في حركة فنية عبثية وتحررية في آن معا.انها لا تقل عبثية عن الحرب الكبرى نفسها.وعبثية الفن هنا ينبغي ان تكون على مستوى عبثية الحرب ذاتها والا فان شحنة الحرية لن تكون كافية.لهذا السبب جذبت السريالية معظم فناني فرنسا وشعرائها.فقد كانت تلبي حاجة تاريخية آنذاك تماما كالوجودية السارترية بعد الحرب العالمية الثانية.ألا تتيح السريالية للفنان،شاعرا كن أم أديبا،ان ينسى نفسه قليلا،أن يسرح في الحلم،ان يتحرر من رقابة العقل الواعي ويرتفع من مستوى الواقع الى ما فوق الواقع؟وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية.نعم لقد لبت السريالية حاجة تاريخية لأنها جاءت في الوقت المناسب وساعدت المبدعين الفرنسيين على التحرر من أنفسهم،من الاكراهات التي تضغط عليهم،من جحيم الواقع الذي لا يرحم.وهكذا أطلقوا لطاقاتهم العنان لكي تنفجر في كافة الاتجاهات..وتركوا اللغة تنفجر ايضا وتتحرر من عقالها،أي من معانيها القاموسية او الشرعية لكي تكتسب معاني أخرى وتكسر القوقعة. تركوا اللغة تتجاوز نفسها وتعبر ليس فقط عن المعنى وانما ايضا عن اللامعنى والعبث واللامعقول.ورأوا ان الواقعية الحقيقية هي ان تكون لاواقعيا!فهل الحرب المدمرة واقعية او معقولة او ذات معنى؟هل يمكن التعبير عن عبثية الحرب بلغة منطقية،قاموسية،محافظة؟ألا ينبغي على الفن ان يعبر عن جنون الواقع بلغة أكثر جنونا منه.من هنا ظهر ايضا موضوع تفجير اللغة الذي انتقل الى ساحة الشعر العربي في الستينات…هذه هي بعض الأسباب والبواعث العميقة التي أدت الى انطلاقة الحركة السريالية في العشرينات من القرن الماضي.ثم توسعت فيما بعد وانتشرت حتى اصبحت حركة فنية بحجم العالم كمعظم الحركات الاصيلة التي ظهرت في عاصمة النور والحرية:باريس.
ولكن السريالية تطرفت فيما بعد في سلوكها وتعبيرها حتى وصلت لدى الأتباع الصغار الذين لايبدعون شيئا الى درجة مقيتة من التهتك والغثاثة والتكرار.أيا يكن من أمر فان غالا ألهمت قريحة بول ايلوار الذي قال فيها هذه الأبيات من قصيدة بعنوان:أغنية الى غالا:
لم أحب في حياتي الا غالا
واذا كنت أنكر النساء الأخريات جميعا
فلكي اؤكد بأني لم أجد امرأة في العالم الا غالا
التي تعطيني قليلا من الرغبة في الحياة
وكثيرا من الرغبة في الموت

هكذا دخل ايلوار وغالا في حلقة السرياليين وانضما الى أندريه بريتون ولويس أراغون وفيليب سوبول ورينيه شار وآخرين عديدين.وهكذا شكلت الحركة السريالية الطليعة الابداعية المثقفة في فرنسا آنذاك،تلك الطليعة التي تريد تغيير الحياة.وأصبح أندريه بريتون يتصرف كرئيس حركة او كزعيم عصابة.وأصبح حي المونبارناس في باريس بكل مقاهيه مركزا للحركة الجديدة التي تريد ان تكتسح العالم.
ولكن غالا تعبت من تقلبات ايلوار وجنونه السريالي.ثم الأهم من ذلك هو ان الحب نفسه تعب ومل.فالحب يبتديء قويا عاصفا ثم يتراخي شيئا فشيئا بمرور الايام والسنوات.هذه هي سنة الحياة وطبيعة الأشياء.الحرمان هو وحده الذي يجعل جذوة الحب متقدة تتحدى الزمن.وأما الوصال-وبخاصة العيش المشترك الدائم- فيؤدي الى خفوت جذوة الحب،الى انطفاء الحب،الى ذبول الحب. وللأسف فان الحب يذبل كما تذبل الورود…وهكذا انتهت العلاقة بين غالا وبول ايلوار بعد سنوات عديدة من الحب والوئام والخصام.وراحت الروسية الحسناء تبحث في أعماقها عن علاقة جديدة،او بالاحرى عن عبقرية جديدة.ووقعت على شخص آخر لا يقل جنونا وعبقرية عن ايلوار ان لم يزد أضعافا مضاعفة هو سلفادور دالي.ولكن دالي لم يكن قد أصبح بعد دالي الذي نعرفه.وانما كان شابا مغمورا لما تتفتح عبقريته بعد.وقد جاء الى باريس بحثا عن الالهام والشهرة والغنى ايضا.فقد كان فقيرا مدقعا تفوح منه رائحة الفقر عن بعد ستين كيلو متر على الأقل..كان يخجل من كثرة فقره.كان شابا اسبانيا يجوب شوارع باريس طولا وعرضا دون ان يملك شيئا آخر في جيبه غيرعبقريته الكامنة التي لم تنفجر بعد.فجاءت غالا لكي توقظه وتقدح شرارة العبقرية فيه.عندما سألوا الروسية الحسناء عن سبب اختيارها لشاب فقير معدم أجابت:لأني أدركت فورا انه عبقري.وغالا مثل ايلزا مثل بقية الروسيات الملهمات كانت تبحث عن الشهرة والعبقرية.فهي لم تترك بلادها وأسرتها هربا من الحرب الأهلية والثورة البلشفية فقط،وانما بحثا عن تأكيد الذات وفعل شيء كبير يعوض عن فقدان الوطن والأهل والأحبة.وهكذا رافقت غالا سلفادور دالي طيلة السنوات الصعبة:سنوات الحرمان ومحاولة الوصول.فعملت على ادخاله في الجماعة السريالية وبذلت كل جهودها لاقناع اندريه بريتون به.وهكذا انضم اليهم وقدم لهم أعماله الكبرى الاولى الى جانب مخرج سينمائي عظيم هو بونويل.وشيئا فشيئا راح دالي يخرج من خوفه المزمن من الفقر حتى اشتهر وأصبح من أغنى الفنانين في العالم.وأصبحت لوحاته تباع بمئات الالوف ان لم يكن بملايين الدولارات في باريس او نيويورك او غيرهما من العواصم العالمية.ولكن عندما وصل دالي الى ما يبتغيه أصبح يهذر ويخرف ويتطرف في جنونه المفتعل او الحقيقي،لا أحد يعرف…ووصل الأمر به الى حد مدح هتلر وفرانكو علنا في احدى السهرات!وعندئذ طرده بريتون شر طردة من جماعة السرياليين.

أراغون وايلزا:
 مجنون ليلى على الطريقة الفرنسية؟

متى التقى أراغون بايلزا لأول مرة؟أو بالاحرى متى التقت ايلزا بأراغون؟ذلك انها هي التي كانت تبحث عنه،تريده،تطارده.فقد كان أراغون في أوج شبابه وذروة عبقريته.كان أمير الشعراء.كان طويلا،جميلا،تنثال عليه النساء من كل حدب وصوب.وما كان من السهل على تلك الروسية المهاجرة ان تخترق الصفوف لكي تصل الى قلبه.يضاف الى ذلك ان أراغون كان خارجا للتو من قصة حب كبيرة مع سيدة اميركية معروفة تدعى:نانسي كونار. لقد خرج محطما،مستنزفا،فارغا.ومعلوم ان الحب السابق لا يخرج من القلب بسهولة،وفترة النقاهة قد تطول او تقصر،وكثيرا ما تترك وراءها جراحات وندوبا يصعب لأمها.فالحب الكبير نادر ويدفع ثمنه غاليا:أي عدا ونقدا.الحب مسألة خطرة على عكس ما يتوهم الكثيرون.صحيح ان له طعم العسل في البداية، ولكن قد يكون له طعم العلقم في النهاية.وهناك شعراء وفنانون كثيرون انتحروا من اجل قصة حب.ولكن أراغون المعتد بجماله وشبابه وموهبته لا يمكن ان يسقط من أول ضربة.فالمستقبل أمامه والفرص كثيرة.من يعرف؟قد يجيء الحب من حيث ندري ولا ندري،وفي معظم الأحيان من حيث لا ندري..الحب لا يجيء عندما نريده او نتمناه او نطلبه.الحب يجيء عندما يريد هو،وفي غفلة من الزمان والوشاة،وربما حيث لا نريد او لا نتوقع على الاطلاق.ولكنه عندما يجيء فانه يفرض نفسه كالملك المتوج لا يناقش ولا يرد.في تلك الأمسية الجميلة،وفي احد أجمل مقاهي باريس الواقع على منتصف الطريق بين المونبارناس والبور رويال كان لويس أراغون على موعد مع القدر،مع اكبر قصة حب في حياته.فعندما دخل الى مقهى لاكلوزري دو ليلا(أي بستان الليلك!)كانت ايلزا تريوليه جالسة وكأنها تنتظره..كان لقاء بمحض الصدفة، بدون ترتيب ولا ميعاد.ولكنه بدا وكأنه كان مرتبا منذ سنوات وسنوات:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
شكرا نزار قباني،شاعر سوريا والعرب… 
هناك مواعيد سرية لا ندري بها ولا نعرفها،انما تنعقد خارج ارادتنا، وتبدو وكأنها محتومة اكثر من المواعيد الحقيقية.ذلك ان يد القدر تسوقنا اليها شئنا ام أبينا.من بين هذه المواعيد ذلك اللقاء بين أراغون وايلزا.أراغون الذي كان يتسكع في الحارة مع زميلين له من المجموعة السريالية قال فجأة:لماذا لا ندخل ونشرب شيئا؟وايلزا التي كانت قد ملت من اقامتها في باريس وأوشكت على جمع حقائبها والعودة الى موسكو،نهضت من غرفتها في احد فنادق المونبارناس وقادتها قدماها على غير وعي منها الى هذا المقهى الجميل والشهير.كانت تريد ان تروح عن نفسها،ان تفكر بمصيرها ومستقبلها.قلنا بأنه مقهى شهير لأنك عندما تجلس على مقاعده وتنظر أمامك على الطاولة تجد أسماء كبار شعراء فرنسا وفنانيها منقوشة على الخشب.فهنا جلس بودلير او فيرلين.وهناك جلس سارتر او سيمون دو بوفوار.وفي مكان ثالث جلس بريتون وأراغون وايلوار…ذلك ان المقهى لا يزال موجودا وبامكانك ان تزوره متى شئت وتتعرف على الزوايا والخبايا التي جلس فيها كبار أدباء فرنسا.وهكذا انعقدت عرى قصة حب شهيرة ابان النصف الاول من القرن العشرين.
ايلزا التي يقول فيها لويس أراغون:
سوف أقول لك سرا كبيرا:
الزمن هو أنت
الزمن هو امرأة بحاجة لمن يغازلها ويجللها
الزمن كشعر كثيف متموج لا نهاية له…
سوف أقول لك سرا كبيرا:
اني أخاف منك
أخاف مما يصحبك نحو النوافذ مساء
أخاف من حركاتك،من اشاراتك،من الكلمات التي لا تقال
أخاف من الزمن السريع والبطيء.
أخاف منك
لقد أفشيت لك سرا كبيرا
فأغلقي الأبواب
أسهل على المرء ان يموت من ان يحب
ولهذا السبب فاني أعيش بصعوبة كبيرة
 يا حبيبتي…

(من قصيدة ايلزا
غاليمار 1959)

 -----------------------------------
- الفاتنات الروسيات: ملهمات غاويات
تأليف: فلاديمير فيدوروفسكي وغونزاك سان بري
منشورات جان كلود لاتيس. باريس

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

نهاية صدقت إحتمال النافذة عندما تؤول الحبيبة إلى صفر

نوسا ،،،،،

حنين الصاعدين إلى المزالق
علمتني كشف زاوية العناق
نوسا ،،،،،
بكاء الله من خلل الطبيعة
تجاوزنا ضمور الجسد ... بامتلاء الروح والنفس العميق
نوسا ،،،،،
سلطة النقاب البدوية
علمتني ألا أفيق
نوسا ،،،،،
آلة الصراع اليدوية ..
تمارس التغييب في وضح الحضور
اعظم من يستعمل الطبشور ....
معلمة بمدرسة النفاق

أحضرت ولي أمري وخرجنا سويا
لا نلوي على شيء سوى الإشفاق

بخ .. بخ يا رسول الحب
لو جئتنا لوجدتنا نحن المرسلين وأنت الميت
والبعث حال
إن شئتم فصوتوا - لايقتضيه السياق-
وتحياتي لزاوية العناق

غنتني اغنية في الشارع
قلدتني قبلة حلوة
وساما ابيض
ومظاهرة
عنفت شجن التوهط في دمي
أنجزت طقسا لا يخصها وغادرت
أدركت النشيد ،، ورائحة البصل ،، العشاء
آذنت للفجر بالدخول
أدركتها الصلاة فيممت حبيبتي واوحت بالسجود
سبحان ربي الأعلى ... سبحان ربي الأعلى ... سبحان ربي الاعلى ...
سبحان ربي الا ...
من نافلة القول:
الحزن اعظم ما يقال عن السؤال
****
غنتني اغنية ومضت اسمها على ختام الطالع
من تفؤد أنجزت المياه سكونها
فسألت الطفل بالطبشور
من علّمك أن تجيب السؤال ؟
ارتجف وقال :
أيًّ سؤال ؟!!
قلت :
أيٌّ سؤال ...
بكى ...
فجفت المياه
وعاد للقلب التفؤد من محايثة الطبيعة وقوة الاحتمال!!!!

دونت كل مسبقات الحنين
قبليات الرجوع
عاصرت في البيت خلية
والنحل ماعوناً يغطيه الزبد
افتعالا للنشيد ،،،
واختصاصا بالنبيذ
هذا ما يغنيه الأبد
في الحديقة .. طاعون

اخضر الرأس .. أشيب الخصر
مخواف
في الحديقة ليل ..
ثم موج .. أو ضفاف
وفي هذا الليل عبير وصدفة
في الحقيقة أطياف
***
البحر ابتدأ
البحر انتهى
البحر المتوسط اغواني
أنجبنا التوسل .. في غير ذات المروحة
البحر اعرق أن تمحو المياه عبير الأمكنة
والليل يمسك بالصبر والصلاة على مياه البارحة
البحر اغرق طين البارحة
وافلقت الصـدفة بالصُدفة

قال المغني : أنا لا اغني
قال الخليفة : لا أعنى بالتراث
قال البحر :
الموج لي
ولله الأعالي
ولكم البقية

عدنا لتدوين الاسبقية
ولحل مسألة النهاية
نصبت المغني خليفة للبحر
وعيّنتُ الصفر .. ما تقوله النهاية
ما تؤوله الحبيبة

وما يغنيه الأبد
ليس هذا كفراً
أحد
:
".. كلما اشتط النعاس على القيام ذريعتي ،اوجدت صبر الفواتح ان ترى غير النهوض ذكيبةً، تركيبةً في النوم احتلمتُ وما سلمتُ من الكوابيس اشمخرت للصياح، كيف النباح أخافنا إبل الرحيل طريقنا وركوبنا على خيل الطواف"

***
حبيبتي ذات مرة ...
غنتني اغنية ... ومضت اسمها على ختام الطالع
وشمها ملاريا القلب ..
صحّت..أو تنحّت...
حبيبتي ذات مرة ..

وحسب
***
يا الله
قامتي تتحدى سنبلة على الجداول
حبيبتي ... ليس شعرا من قبيل الظلال
حزن لطيف الملمس
أو مساهمة النشوء على علة العلماء
تلبسنا الحنين إلى الرجوع
من غير الرجوع ؟
وما غير الإله ؟
صرت مكفيا بالفرح
وما غير الفرح؟
زاد الإله بصيرة للذات ام حمد
ما غير الصمد
ليس هذا كفرا ،،، احد !!!
الغيم كرسي الإله
السفر خروج
الكتاب مطالعة
النبي الأخير شهادة
والعمل طيب ..

( طّيب)
قالت : متي ستخرج للجزيرة ؟

الغيم كرسي الإله وصورة البرواز أنتِ،/
قلت : من غيمة كانت لا تشيء إلي القلق
بالسر قلت .. بالجهر باحت واستباحت مدن الغناء لكونها منطلق
سبحان رب الفلق
حبيبتي ملء الصدى ارهقتني بالوصول
أين البروز إلى شبق الخروج إلى المداخل
أين السواحل ؟
كيفما اتفق
يا الله
جربت الحبيبة تختاً .. لحامل هذى الكأس
ودست مساحة للطبشور في عنق الزجاجة
جربت الحبيبة ... تختاً .. ودست مساحة في عمق الطباشير
أجفلت الكلمة ليُتم الحبيبة
وعينتني رئيسا للمترجمين ..
عضو المشرحة
"فلست احفل باليتامى استباحوا الدمع عذرا
أو توانوا عند سيرك المسرحة"
يالله
جربت الحبيبة تختاً .. لحامل هذى الكأس
موسى لصلع هذى الرأس
فأسا لاحتطاب القلب
قربتها من دمي
شعّت
فأجفلت الحبيبة للقلب الطري
قد تآكل صوت هذا الشرخ في عرض القصيدة
قد تنادى... وتهادى ... تنامى .. وتسامى
تأزم واستقام
:
الليل انياب السؤال... والحزن أعظم ما يُقال
***
الآن مني تجلس الحبيبة مكان القلب للقلب
للظهر قلب .. للقلب ظهر.. ورسالة
أيها الحزن
أنا اعتريك اولا
فاعتريني حبا
أو فادخر ني مصلاً
لذاكرة لا تعي
الفهد اتخذته الحبيبة ... زيتاً للهجوم
الجبن اتخذته الحبيبة ... مكاناً للحليب
الموت اتخذته الحبيبة ... بيتاً للقلب
سأسكن القلب ... فالموت ترياق النبي
والحزن اعظم ما يقال عن السؤال
أنا وحبيبتي كففنا أن نقاوم السؤال

اناعيونك الجديدة ... انا عيونك البعيدة
عجلي بموتك في الصهيل
صفيه لي
أو غنيه لامسية ستأتي
في عيونك أيتها الحبيبة
فاجدر ما تُحلّ مسألة النهاية
أن تؤول إلى الزوال
***
فيا حزن ... يا الله
غننا أول مطلع للشقيقة التي رفضنا .. أن نقاوم
للصديقة.. التي أنجبتنا التساؤل.. للحبيبة.. النشيد
يا أيها الوطن الغريب
ما كانت طيوبك أن تكاتف بالوله
أو كانت مكانك في الضياء
لولا المراجيح التي دلتك على حبل المسد
أدت إليك الكلام
ردت عليك السلام
المراجيح النظام عنفتك واستقامت على غناء الابد
والشرخ في عرض القصيدة
ليس هذا كفرا..... أحد !!!!


استورطتك المناهج أن تحلق
استدرجتك البيوت إلى إمام النافعة
بيتتك التمرد
وبللت شارب الشبق انسحاب
قالت :
أن تهاديك المطالع .. أن تعاديك الحبيبة
أو تناديك الشعوب ...
فلا تعلق
هُمّ يتساءلون عن احتمالك في الخميرة
أو حصة الأحياء في صباحاتنا الفطيرة

الطفل سارجاً نهدها .. عبأته بالشجون
لبن حميض الاستكانة .. منبجس النفور
يخلي القلب غلظة
يسحب "الاستيكة"..
يمسح النوم
يغني للجنون:
نحن إن اصبع مسّك
نترك الناي لنحسك
يا لنحسك والمخاوف
سرّبتنا فقاعة الدم الحرة
قربتنا .. من صديدك
غربتنا عن الخريطة
زيفتنا بالقزح.... واللون واحد
واحد ابيض ..... ابيض واحد
يسحب "الاستيكة" ... يمسح النوم .. يجن للغناء:

*
لهذا الحزن ميقاتٌ يخصني
وهذا الشجن النبي
لا ينطق إلا الهوى
أمالت الأنامل
الأنامل الصغار
الأنامل الشجية
الأنامل التي غازلت هيكل العزلة في القلب
مائة عزلة في العام
لهذا القلب
واحدة فصصته بالأنامل
وأنا... ملء
الهذيان أُغني
لهذا الحزن ميقاتٌ يخصني
وفي هذا النص خاطراً لا يخصه
( احب حبيبتــــــــــــــي )
هذا الشجن .. النبي ... أفلتت عصافيره السماء
شدت على الأعصاب بالقضبان .. انه القطبان
والبحر افلت الشطآن
كلنا اليوم سوا
هذا الشجن النبي .. لاينطق إلا الهوى

تنحت السفينة .. في البر قالت للمدينة
البحر اغرق الحصى... والريح أطفأت الرتينة
الموت حزن لا يجيء... الموت ترياق النبي ...
والحزن اعظم ما يقال عن السؤال

**
ما شهدنا اليوم في بركة المنفى
غير أسوار اتتنا لا تعي غير الحلاوة في مذاق الطفلة الاولى
.... قيد الزوايا ... انفلاتنا صحوة أن نجيء
مبكى عنيف الذكريات...
ان نخرّط للعصافير الهواء
لا يزال في القلب متسع للحنين
لا يزال التبغ يمسك بالقوامة ..
في محاولة اتزان الاعدقاء
أيها الحزن .. عدني أن ترث الخلافة
خلني مأسسة للتمرد
اناهز العمر الغبي
الاوذ أن أجيء
اقبل الشجن النبي
أيها الحزن عدني ... أنت بي

يا حبيبتي... مللت التغني
كم إذا جئت اشتكيتك
تركت القصيدة ... ومللت على الأطفال ... طفلتنا العنيدة
يا حبيبتي الوحيدة.... مللتك

بحق الله ....والدم السابع
هذا البرتقال
ما كان انسلاخ
أنّا حفظنا للشفاه جفافها
بيد أن الفجر كاذب
وقت أن الفعل: قال
العيب فينا انّا انصرفنا بالمكان عن المكان
والسلم شاهد .. يحفظ للزوايا الانتباه!!
كل الزجاجة لي
نصف البرتقال إلى الزجاجة
الكسر واحد
والنسبة ثابتة..
في القلب وفي المقال
نصف البرتقال إلى الزجاجة
.. كل البرتقال إلى الزوال
النصف ضاع في الحساب
والياء أكملت الطريق
***
يا حبيبتي .. ليس شعرا
ظلي خريطة ... دمي المعالم البسيطة ...
ليس شعرا
تململت سحابة .. أدخلت عيونك الدماء
ليس شعرا .. ليس ماء
في أوائل الشتاء .. ثار الضياء على الشجر
أنكرت الشموس القصيدة ... أنكرت القمر
ليس شعرا
إلا الضجيج
في سواكن الميناء
إلا الهروب إلى شعوب البرتقال
ليس شعرا حين قال :
إن شعري يا حبيبتي
ما جاء في المقال
ليس شعرا
ما الموج قال

إنّ شعري يا حبيبتي
يسكن السؤال!!!
صدّقت احتمال النافذة
الحبيبة الصدفة
تغريبة
خمر
ليل أبرص
وتفاحة
صدّقت احتمال البداية
وجربت الهواء
دخان
نزقٌ شعرّي
وصلصال

صدّقت احتمال النهاية

ضاق الاحتمال
أن تكون البيوت على المدينة يؤسس السؤال
أن تكون المنافذ السفينة يؤسس السؤال
أن يكون السؤال على السؤال يضيق احتمال
..الصفر حديث النافذة
نهاية المقال
واجدر ما تحل
مسألة النهاية
أن تؤول إلى الزوال
 ...............................................................
منعم عمر

الأحد، 11 سبتمبر 2011

مفهوم التهميش وتحديّات العمل المشترك*


    ورقة عمل قدمت في إطار "نداء لندن من أجل السلام والتنمية والعدالة في شرق السودان"، 17 سبتمبر 2005.

    محمد جلال أحمد هاشم
    المؤتمر النوبي (نوبيين كريووس)
    مكتب بريطانيا


    خلفيــة تاريخيــة
    يُعتبر السّودان بمثابة غابة من الهويّات الثقافيّة. لكن هذا لا يعني انتفاء الوشائج والأواصر التي تشدّ هذا النّسيج ببعضه لتشكّل لوحة إثنية/ثقافيّة رائعة. فمثلاً المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة تُشكّل نسبة 64% من مجموع الهويّات في السّودان، بينما تُشكّل المجموعة النّيجر ـ كردفانيّة نسبة 32%. إذن 96% من مجموع الهويّات بالسّودان ينقسم إلى مجموعتين أساسيّتين فقط! وتنقسم المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة إلى ثلاث مجموعات صغرى هي: السّودانيّة الغربية، والسّودانيّة الوسطى، ثمّ السّودانيّة الشرقيّة، وهي تشمل المجموعات الثقافية/اللغوية المنتشرة في حزام بلاد السّودان من المحيط إلى البحر الأحمر. هذا هو إقليم بلاد السودان، وهذا هوالعمق الحقيقي للسودان [لمزيد من التفاصيل، يراجع: يوسف فضل حسن، 1971]. في هذه المجموعات اللغوية الثقافية يكون مستوى القرابة أشبه ببنات أو أبناء الأعمام. فعلى سبيل المثال نجد النوبيين (على النّيل [الكنوز، الفاديجّا، السّكّوت، المحس، والدناقلة] وفي شمال كردفان [الحرازة] وفي جنوب كردفان وجبال النّوبة [الدلنج، الغلفان، الداير، الفنْدا، كاركو، كاتلا] وفي دارفور [الميدوب والبرقد]) ينتمون إلى المجموعة السّودانيّة الشرقيّة مع العديد من الكيانات التي تتوزّع في جميع أنحاء السّودان، شرقأ ، وغرباً، وجنوباً. لهذا لا ينبغي أن نتعجّب إذا علمنا أن علماء المرويات [عبد القادر محمود، 1985] يقولون بأن لغة الباريا بأقصى جنوب السّودان من بين أقوى اللغات السّودانيّة المرّشّحة للعب دور أساسي في حل طلاسم اللغة المرويّة، وكلاهما (الباريا والمرويّة) ينتمي إلى السّودانيّة الشرقيّة، مثل الدينكا، الشلك، النوير، الأنواك، اللاتوكا، التبوزا، إلخ .. إلخ (حتى الأشولي بين السّودان ويوغندا والماساي بكينيا) .. ثم الإنقسنا بشرق النيل الأزرق، والداجو والميما والكانوري بدارفور ، فضلاً عن المجموعات التي تلتقي معهم في النيلية الصحراوية مثل الفور، الزغاوة والبرقو إلخ. هذا دون أن نذكر جبال النوبة والتي نصفها ينتمي إلى ذات المجموعة، مع نصف آخر ينتمي إلى النيجر ـ كردفانية مثل كانقا، كادوقلي، قارمي، توشّو، توليشي، إليري، توقولي، تيما إلخ [في هذا فليراجع www.ethnoglogue.org. هذه هي حقائق العلم فيما يخص هويّة السّودان. في هذه الخريطة الإثنية لا مجال أبداً إلى الزّعم بعروبة هؤلاء وأفريقية أولئك على أساسٍ عرقي. لقد انتهى إلى غير رجعة عهد الأنثربولوجيا العرقية حيث تتمايز السّلالات جينيّاً، سموّاً وانحطاطاً. إن المعيار العلمي والمادي اليوم هو الدّالة الثقافيّة واللغويّة.

    الدولة السودانية والتعدد الثقافي والإثني
    تُعتبر مؤسسة الدّولة في السّودان من بين الأقدم تاريخيّاً، إذ تعود إلى 7000 سنة قبل الميلاد على أقل تقدير [للمزيد ينظر: ديريك ويليسبي،2000]. وعٌرفت هذه الدولة عبر التاريخ بعدّة أسماء، مثل كرمة، كُوش، إثيوبيا، نوبيا، والسّودان، والتي تدور كلها حول معنى "السّواد"، كأنما ظل الاسم يُترجم من لغةٍ إلى أخرى عبر العصور [إنتصار صغيرون، 1999]. كما كانت حدودها أكبر بكثير مما هي عليه الآن، إذ كلما عدنا إلى الوراء، كلما انداحت دائرة حدودها. وتميّزت هذه الدّولة عبر تاريخها الطّويل هذا بالتّنوع والتّعدّد إثنياً، ولغوياً، وثقافياً ودينياً. ومن خلال الاعتراف بهذا التّنوّع تمكّنت الدّولة السودانية من الحفاظ على وحدتها الوطنية. تمثّل هذا الاعتراف في أن كل مجموعة ثقافية كانت تتمتّع في إطار الدّولة الواحدة بإستقلالية إدارية وسياسية داخل حدودها الخاصة بها. ذلك ما يعبّر عنه حالياً بمنظور "الوحدة في التّنوّع"، حيث يحتفظ كل إنسان بثقافته ولغته في تعايش سلمي تحت ظل دولة واحدة. في هذا الوضع تتكامل الثقافات مع بعضها البعض دون إزاحة أو استيعاب (أي تذويب).

    الدولة السودانية واللامركزية
    ظلّ السّودان يُدار بهذه الطريقة، التي نعرفها الآن بعدة أسماء مثل اللامركزية، الحكم الإقليمي، الحكم الذّاتي، الفدرالية، الكونفيدرالية ... إلخ، منذ أقدم العصور حتى السلطنة الزرقاء (1505م) التي دشّنت ميكانيزم إعادة إنتاج المجموعات الأفريقية (الهامش) ثقافياً داخل الوسط العربي الإسلامي (المركز)، وذلك باعتباره مشروعها للوحدة الوطنية. بعد ذلك جاء الاستعمار التركي ـ المصري (1821م) الذي انتهج أسلوب المركزية الباطشة. ولكن بلا طائل، الأمر الذي حدا به في النهاية إلى النكوص عنها ومن ثَمّ الرّجوع إلى اللامركزية والتي فشل فيها أيضاً لسيطرة الأسلوب المركزي على عقليته. منذ ذلك الحين تكرّست لدى الدّولة العقلية المركزية والمُقارَبة الأحاديّة لمعالجة أوضاع التّعدد والتّنوّع، الأمر الذي تبلور فيما يُعرف بمنظور "بوتقة الانصهار"، حيث ظلّت الدّولة تعمل بكل ما تملك من قوّة على إزاحة ومن ثَمّ تذويب اللغات والثّقافات الأخرى بتهميشها تنموياً وثقافياً.

    الثقافة العربية/الإسلامية: حصان طروادة
    استخدمت الدّولة في آليات التمركز والتهميش التي اتبعتها سلاحاً خطيراً تمثّل في تمرير سياساتها عبر أجندة الثّقافة العربية والإسلامية التي لا ينبغي أن نُحمّلها مسئولية ذلك، فهي منه بريئة. لقد لعبت الثقافة العربية ـ الإسلامية دوراً مجيداً في السودان، إذ دخلت معترك الصراع الحضاري فيه في فترة كانت المجتمعات السودانية تعاني من الانغلاق، فكسرت طوق الانعزال [للمزيد يراجع: يوسف فضل، 1973]. في ظل كل هذه المعطيات نشأت مؤسسة الدولة وفق حرائك الأيديولوجيا العروبية وما تبع ذلك من تمركز وتهميش، وما ذلك إلاّ لأن الأحادية الثقافية كانت هي عملة الوقت آنذاك، إذ لم تكن قد بزغت عندنا بعد شمس الدولة الوطنية القومية، كما لم تكن أزمة الهوية باعتبارها مرتكزاً من مرتكزات حقوق الإنسان قد تبلورت كما يشهد الآن روح العصر وعقله [محمد جلال هاشم، 1999]. إن التأكيد على أن الدين هو مصدر إلهام روحي ومعنوي، فضلاً عن كونه يخدم حاجة الإنسانية جمعاء للتفاعل السلمي والارتقاء الروحي والمعنوي، لا ينبغي أن يضعف المطالبة بفصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية، رفضاً تاماً لمفهوم الدولة الدينية، ومن ثم النظر إلى ذلك على أنه شكل من أشكال تسويغ القهر والاضطهاد السياسي بمسوغات دينية. إن الدولة الدينية لا تقف فقط على الأفكار الدينية، إذ إن من حق أي مجموعة دينية أن تعبر عن أفكارها سياسياً وأن تنشئ لذلك أحزاباً سياسية. فإن كانت هذه الأفكار ديمقراطية، فمرحباً بها مع جواز الاختلاف معها، أما إن كانت غير ذلك فينبغي مناهضتها لديكتاتوريتها ولمتاجرتها بالدين معاً.

    الإسلاموعروبية: أيديولوجيا الدولة السودانية
    في ظل كل هذه المعطيات نشأت مؤسسة الدولة منذ قيام دولة الفونج وفق الحراك الأيديولوجي الإسلاموعروبي وما تبع ذلك من تمركز وتهميش ومن ثمّ استقطاب أيديولوجي للطبقة المثقّفة من أبناء المجموعات المتعرّبة وتلك المستهدفة بالاستعراب وما تبع ذلك من هوس ديني فاشستي عهدناه في تجربة حركة الإخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية، المؤتمر الوطني، المؤتمر الشعبي إلخ قائمة التلاعب اللغوي). إن أخطر ما في الأمر أن مؤسسة الدولة ظلت تسوّق لأيديولوجيتها القائمة على التمركز والتهميش عبر أجندة الثقافة العربية الإسلامية، تحييداً لحملتها في صراعها ضد المجموعات المهمّشة بادية الأفرقة. وهذا هو مردّ اللبس في النظر إلى المجموعات العربية أو التي تعرّبت تماماً باعتبارها مسؤولة عن واقع التمركّز والتهميش، في الوقت الذي تعيش هي نفسها في تهميش مريع كما سيتضح أدناه.
    في هذا نمايز تماماً بين مصطلحي "الإسلاموعروبية" و"الثقافة العربية والإسلامية". فالأول ذو دلالة أيديولوجية بحتة تعني مجموعة المحددات السلوكية التي تشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة التي قامت على الأسلمة والاستعراب بوصفها وعياً اجتماعياً ـ ثقافياً (أي أيديولوجياً)، إذا قسناه بمقياس الإسلام، لن يكون إسلامياً، وإذا قسناه بمقياس العروبة، فلن يكون عربياً. بينما الثاني يعني المجمل التراث العربي والإسلامي في حال تجرّده من أي تشكلات أيديولوجية مرتبطة بالمصالح الحياتي لمجموعة معينة من البشر.


    مفهوم التهميش

    خلفية المصطلح
    نشير إلى أن إدخال مصطلحي "المركز" و"الهامش"، الذي تولّد داخل أروقة الفكر الماركسي المحدث بعيد منتصف القرن العشرين، وذلك في تحليل أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في السودان بدأت عام 1968م، عندما استخدم علي مزروعي [1971] المصطلحين في معالجته النقدية للصراع الثقافي بين مستعربي السودان وما شاكله من دول ذات شعوب مستعربة أسماها الهامش (السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي)، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. في عام 1986م قام كاتب هذه السطور في الإصدارة الشعبية الأولى لكتابه منهج التحليل الثقافي بتوطين هذه المصطلحين في تحليله للصراع الثقافي في السودان بالنظر إليه على أنه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي "المركز" و"الهامش" مصطلحي "الوسط" و"الأطراف"، ليركن بعدها في الطبعات الثلاث اللاحقة (1988؛ 1996؛ و1999) إلى مصطلحي "المركز" و"الهامش". بعد ذلك قام عبد الغفار محمد أحمد [1988]، متبنّياً رؤية علي مزروعي بخصوص الحزام الهامشي للدول العربية ، بمعالجة قضايا الصفوة والطبقة المثقفة في هذه الدول الهامشية من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية العاربة عليها. كما استخدم منصور خالد (1993) مصطلح "المركز" دون "الهامش" بمحمولات جغرافية ديموغرافية ("أهل الحضر والريف"؛ "المركز والتّخوم"). فيما بعد تمّ تكريس هذا المصطلح عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.

    التهميش قديم
    إن فهمنا ينهض على أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض. كما يذهب فهمنا إلى أن عمليات التمركز والتهميش ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويرها على أنها كذلك إلا مجرد خدعة. فالمركز مركز صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا [محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. بهذا أصبح هناك طريق واضحة للطامحين بالسلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأعراق والثقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة. هنا لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصولك، طالما كنت مستعدّاً للتضحية بأهلك تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. في الواقع فإن أغلب الرموز القيادية التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التهميش إلى حد التعريض بها ثقافياً وعرقياً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسسة الدولة في السودان، مهمّشاً في ذلك جميع السودانيين [أبّكر آدم إسماعيل، 1997].
    تشتكي كل المجموعات المهمّشة من قلة حظّها في السلطة وانعدام نصيبها في الثروة. ولكن في الأمر لبساً لا بدّ من إجلائه. إن إحالة المتنفّذين في أجهزة الدّولة والسلطة الحاكمة إلى خلفياتهم الثقافية والإثنية من حيث قيمتهم العددية وليس الأيديولوجية، لا ينبغي الأخذ به كمؤشّر ودليل على النسبة التي حازتها المجموعة من حيث السّلطة والثروة. فالمركز يجتذب العديد من أبناء المجموعات المهمّشة والتي نالت حظّاً وفيراً أو متوسّطاً من العلم كيما يصبحوا جزءً منه، مقابل أن يمنحوا السلطة والثّروة تعميةً لواقع حرمان أهلهم من كليهما. فعلى سبيل المثال لم تخلُ حكومة منذ الاستقلال وحتى الآن من المثقفين الجنوبيين، في الوقت الذي لا يغالط فيه إثنان أن نصيب الجنوب من السلطة والثّروة لم يتغير البتّة عبر كل هذه السنين. حتّى إنقلاب الإنقاذ في عام 1989م شارك فيه ثلاثةٌ منهم. ومثال آخر يوضّح المسألة ما عليه إقليم النوبيين في الشمال و إقليم أهلنا البجا في الشرق؛ فكلاهما يعاني من التهميش المزدوج. فبينما قبع البجا بأرضهم، اضطُّرّ النوبيون إلى هجرة بلادهم إلى درجة خلوّ الإقليم في بعض قراه من السّكان. وكلا المجموعتين مهددة في تراثهما وهويتهما من حيث احتمال زوال لغتيهما، إضافةً إلى فقر إقليميهما. من جانب آخر، إذا أحصينا عدد النوبيين الذين شاركوا في الحكومات منذ الاستقلال وحتى اليوم، مقارنةً مع ما عليه حال البجا، فإن الصورة ستعكس مفارقة ضخمة في ظاهرها، واحدة في جوهرها. إذ قلّما نجد نظام حكمٍ لم يشارك فيه وبصورة أساسية أشخاص يعودون في جذورهم العرقية و/أو الثقافية إلى النوبيين، فضلاً عن بعض رؤوس الحكومات مثل عبدالله خليل والنميري والصادق المهدي والزبير، ناهيك عن الوزراء الذين ربما لا حصر لهم، الظاهر منهم والخافي. بخصوص البجا، فإن العدد قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، والمتّفق عليه بينهم عامةً هو عدد ستّة وزراء منذ الاستقلال وحتّى اليوم. لكن يبقى السؤال: بماذا انتفع النوبيون من كثرة عدد الوزراء والرؤساء ممن يعودون في خلفياتهم العرقية والثقافية إليهم؟ هل قامت تنمية في بلاد النوبة؟ لا! فقد حازت تلك الصفوة النوبية كلا السلطة والثروة، فهل تقاسمتها مع عامة الشعب النوبي؟ الإجابة لا أيضاً! من الملاحظ أن تلك الصفوة فيما تنزّلت من أجيال تنشّأتها وربتها، قد ابتعدت عن أهلها ثقافةً وموطناً، فقد استعربت وتأسلمت تماماً، فلا أبناؤهم يتكلمون النوبية ولا هم يعرفون في غالبيتهم شيئاً عن بلادهم وعن التهميش المزري الذي ترزح تحته. هذه الصفوة كما لو كانت قد باعت أهلها وبلادها من أجل السلطة والثّروة. فليت الأمر وقف عند ذلك، فقد وجد النوبيون المهمّشون أنفسهم في موقع الدّفاع عن أنفسهم باعتبار أنهم جزء من المركز الذي احتكر السلطة والثّروة، لا لشيئ إلاّ لأن بعضاً من أبنائهم الذين صرفوا عليهم من عرقهم ودمائهم قد باعوهم في سوق النخاسة السياسية. إن ما أفاد منه النوبيون من ذلك العدد الضخم من الرؤساء والوزراء يساوي ما أفاد منه البجا من ذلك العدد القليل من الوزراء، وهو لا شيئ. ولو انعكست الآية، لما تغيّر حال كليهما تهميشاً تنمويّاً وثقافياً.
    إن المحتكم في هذه المسألة هو أن من تسلّم السلطة ينبغي محاسبتهم على ضوء البرامج الأيديولوجية التي بمقتضاها فعلوا ذلك، لا بمقتضى خلفياتهم الإثنية التي لا دخل لها فيما جرى. فحتّى الآن لم يتسلّم أيٌّ من أبناء البجا أو المناصير أو جبال النوبة أو النوبيين موقعاً سلطوياً باسم المجموعات التي يصدرون منها باعتبار أن ذلك الموقع يمثل جزءً من قسمة السلطة والثروة الخاصّة بالمجموعة. فمثلاً إذا استلم السلطة شخصٌ من الفور باعتباره عضواً في الجبهة الإسلامية انطلاقاً من أيديولوجية تمكين الدين وإعلاء راية الجهاد، ثمّ أثرى بعد ذلك عن فسادٍ زاخم، فضلاً عن بعض عمليات إبادة وتقتيل هنا وهناك، في الجنوب والأنقسنا إلخ، فكيف بالله نحمّل أهلنا في دارفور مسئولية هذا المارق؟

    التهميش نوعان: تنموي وثقافي
    إن الهامش ليس في جهة جغرافية بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كل مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدة كيلومترات فقط ليرى التهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنية بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأن الهامش ليس جغرافياً كما ليس عرقياً، بل هو سلطوي [محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. إلاّ أن التهميش يجري على نوعين: بسيط ومركّب. التهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السودانيين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكلون المركز وينتمون إليه. أمّا التهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التنموي والحرمان الثقافي ممثّلاً في توجّهات الدولة الأيديولوجية لمحق الهويات غير العربية وقتل لغاتها. في هذا كان التهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي، إذ جعلت مؤسسة الدولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهوية العربية وإزراء الهوية الأفريقية. وقد كان من أثر هذه التكتيكات الأيديولوجية أن وجدت المجموعات الأفريقية (التي تعاني من التهميش المزدوج تنموياً وثقافياً) نفسها في الدرك الأسفل عرقياً، وثقافياً، واجتماعياً وسياسياً، الأمر الذي يستوجب منها عملاً موحداً، ولو تفاوتت درجات تهميشهم وتعرّضهم للاضطهاد.

    التقسيم الخطي: تكتيكات الخداع
    في سبيل تأمين تحكّمه على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد، اتّبعت الصفوة المهيمنة على المركز العديد من الحيل. من ذلك تقسيم السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة: الأفارقة السود العبيد مقابل العرب الشرفاء؛ ثم العرب نفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف وأبناء القبائل العاربة مقابل الأعراب البدو. هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب). روّج المركز الذي سيطر على مؤسسة الدولة لهذه التقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطية فشت في ثقافة وسط السودان النيلي وشماله. إن الغرض من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. إن التقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري: مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، 1999].

    الحرب الأهلية: حرب الهامش ضد المركز
    لقد استمرت هذه العملية لزمن طويل حتى وصلت في النهاية حد التمييز العنصري والاضطهاد، ولهذا نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد بوجهيه الثقافي والتنموي، فقاومت بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. إن وتيرة اندلاع الحرب الأهلية تتساوق طرديّاً مع درجة التهميش والاضطهاد، فقد بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أن الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النوبة والأنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأن جبال النوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت التحييد، فالتقسيم الخطي (شمال ضد جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً؛ ثم بعد ذلك جاء أهلنا في جبهة الشرق ثم في دارفور ... وهكذا إلخ. والآن هاهم النوبيون، وهاهم أهلنا المناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التمركز والتهميش.

    الكتاب الأسود والرؤية المقلوبة
    لقد وقع الكثير من المثقفين السودانيين في شرك النظر إلى التهميش من زاويته الرقمية غير المنهجية، فأضاعوا جهدهم وجهد غيرهم فيما لا طائل من ورائه غير تغبيش الرؤية. إلاّ أن هذه الرؤية الرقمية السطحية للتهميش توّجت فيما عُرف بالكتاب الأسود [2003]، وذلك في سبيل نصرة قضية دارفور، وهي رؤية تضرّ بمسيرة نضال القوى المهمّشة، ذلك لأنها تشوّه الواقع أكثر مما تعكسه. وبدءً نشير إلى أن الكتاب قد انبنى على منهجيةٍ فضائحية، متحاملة لونياً وعرقياً، في تناوله للتهميش من حيث مسمّاه. وفي هذا كشف كُتّابُه، في أحسن الاحتمالات، عن تبعيةٍ غير نقدية وغير راشدة لأيديولوجيا المركز التي تحطّ من قدر كل ما هو أسود في بلد السّود الذي اسمه السّودان. إن هذه الأخلاقية الفاشيّة التي تُزري باللون الأسود تكشف عن الخلفيات الأيديولوجية التي قدم منها حاكةُ الكتاب، ألا وهي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وهي أيديولوجيا تواطأ معها المؤلّفة قلوبهم ممن حاكوا الكتاب الأسود. فمثلاً لتبيان وجهٍ من أوجه الخطل التي انبنى عليها الكتاب يمكن أن نشير، مثلاً، إلى أبناء دارفور الذين انخرطوا في سلك الجبهة الإسلامية المسئولة الأولى عن هذا النظام وعن سياسات التطهير العرقي التي اتّبعها في دارفور وقبلها في جبال النوبة والأنقسنا والجنوب، أكثر عشرات، عشرات المرّات من أبناء المناصير أو البجا أو النوبيين. فهل معنى ذلك أن نحمّل هذه الكوادر مسئولية الإبادة التي لحقت بأهلهم في دارفور؟ إن سياسات التطهير العرقي القائمة على العنصرية من حيث العروبة والأفرقة، متجذّرة في بنية مؤسسة الدولة منذ قيام سلطنة سنار عندما أصبحت تستند في مشروعيتها الفكرية على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وقد انطوت تلك الأيديولوجيا على منزلق سلوكي خطير، به أصبحت الدولة تتحدّر انزلاقاً يوماً بعد يوم. وفي هذا نشير إلى حقيقة أن التطهير العرقي بدأ في دارفو بمذبحة الضعين عام 1987م في ظل حكم الصادق المهدي، أي في الديموقراطية الثالثة [محمد جلال هاشم، 2005]. واليوم لو كان أبناء دارفور ممن بدّد سني شبابهم وكهولتهم في تبعيةٍ عمياء لدولة الجبهة الإسلامية المارقة، على سُدّة الحكم لما أجدى ذلك أهلهم فتيلا من حيث إمكانية تلافي التطهير العرقي، ذلك لأن هذا المنزلق، دون إعفاء الأفراد القائمين به من المسئولية، متأصّل في بنية مؤسسة الدّولة. ولعلنا لا ننسى أن مذبحة المساليت عام 1995م، والتي بدأت بها فعلياً موجة التطهير الأخيرة في دارفور، قد تمّت والوالي أحد أبناء المساليت. ومع ذلك ما انتفع المساليت من ذلك شيئاً.
    ولعلّ مثل هذا النهج الجائر هو الذي انتهى بقادة المؤتمر الشعبي (أي نفس الجبهة الإسلامية المارقة في ثوب جديد) ومن والاهم من أتباعهم بحركة العدل والمساواة إلى إحالة مسئولية التهميش إلى مجمل مجموعتين ثقافيتين هما الدناقلة والشايقية، أو النوبيين [راجع تصريحات خليل إبراهيم خليل في قناة الجزيرة www.aljzeera.net/channel/aspx في "لقاء اليوم" بتاريخ 22/11/200، وما ذلك إلاّ لأنهم ارتأوا أن أبناء هاتين المجموعتين ممن انخرط في سلك هذه الحركة المارقة، جرّاء الاستقطابات الناشبة فيها، قد وحّدوا صفوفهم باعتبار أنهم شايقية أو دناقلة. وهكذا أدّى بهم غياب الرؤية الناهجة إلى الاعتقاد بأن المجموعتين الثقافيتين في مجملهما مسئولتان عمّا حاق بهم من تجريدٍ للسلطة ووخيم عاقبةٍ بين عصابة السُّرّاق. ولا يفيدهم في هذا القول بأن عصابة المتآمرين من دناقلة وشايقية قد شرعوا في توسيع أحلافهم من ذوي القربى تسلّطاً وإثراءً. فذلك ما استنّته هذه الحركة بنفسها عندما جعلت من المحسوبية، عن قرابةٍ كانت أم عن أيديولوجية، سياسةً معترفاً بها من الدولة.
    أجدى من ذلك أن ننظر إلى التهميش في بعديه التنموي والثقافي، فإذا وقعنا عليه ما التفتنا إلى كم عدد المثقفين من ذلك الإقليم المهمّش ممن ارتضى أن يبيع أهله طمعاً في السلطة وبدرةٍ من مال السُّحت. بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى الواقع المعاش من حيث التمتّع النسبي بالسلطة والثروة الذي فازت به بعض الأقاليم على حساب البعض الآخر، خاصةّ النيلية منها، إمّا لقربها الجغرافي من مركز السّلطة والثّروة، أو لزيادة حصّتها من التعليم الأولي منذ عهد الاستعمار التركي المصري ، أو لمحاباةٍ من المركز في سعيه الدّائم لتحييد بعض قطاعات الشعب ذات السّكون الأيديولوجي الإسلاموعروبي وتحويل ذلك السّكون إلى تواطؤ، ريثما يتمكّن المركز من تدجين القطاعات الأخرى جامحة الأفرقة لغةً وثقافةً. هذه هي الرؤية الناهجة التي كان عليها شهيد الحرب والسلام القائد العظيم جون قرنق [يراجع في: الواثق كمير، بدون تاريخ]، وعلينا أن نقارن بين رشاد هذه وضلالة تلك. في هذا يتضح أن التعليم نفسه قد تمّت قولبته وتشكيله ليخدم أيديولوجيا الهيمنة والقهر التنموية والثقافية. ويشهد واقع النوبيين اليوم ـ على سبيل المثال ـ بهذا؛ فهم من أكثر المجموعات نيلاً للتعليم وفق هذه القولبة الجائرة؛ كما هم الآن، بفضل هذا، من أكثر المجموعات تعرّضاً للاندثار كمجموعة أفريقية لها لغتها وثقافتها وموطنها الجغرافي.
    بهذا يمكن القول بأن المجموعات المهمّشة التي لم تنل حظّاً من التعليم بصورته الشائهة للهوية هذه، كالبجا مثلاً، لم تخسر الكثير. فبينما البجا الآن على بكرة أبيهم يطالبون برفع التهميش عنهم نضالاً مدنياً وعسكرياً، نجد النوبيين منقسمين على أنفسهم، غير مدركين في أكثريتهم الساحقة بما يحيق بهم من خطر داهم. ففضلاً عن أن هذه الأغلبية الساحقة ذاهلة، لا تدري على أي وجه قد وقع عليها التهميش، ها هي السلطة المركزية التي يسعى البعض لتحميل النوبيين إجمالاً مسئوليتها قد وجهت طعنة غادرة للنوبيين من الظهر وذلك عندما باعت الحوض النوبي للمصريين بغية توطين 15 مليون فلاح مصري تحت غطاء ما يعرف بالحريات الأربعة [راجع: مذكرة مجموعة العمل النوبي، 2004؛ جريدة الصحافة، 31/3/2004]. ولعلّ من الطريف أن نشير هنا إلى تصريحات عبد الرحيم محمد حسين، وزير الداخلية السابق، في القاهرة (يناير 2005) عندما حذّر من تنامي الأفرقة كمّاً وكيفاً في السودان جرّاء الهجرات المستمرّة من غرب أفريقيا، بينما توقفت الهجرات من الدول العربية، داعياً المصريين إلى التسريع بالاستيطان في شمال السودان حلاًّ لمشكلة الانفجار السكّاني [راجع ذلك في: www.ahram.org.eg/archive/Index. لعلّنا سننتظر حتى يشرع هؤلاء الفلاحون بعد أن يتمّ توطينهم في قتل النوبيين الآمنين، لنسمع بأن عامة النوبيين قد اكتشفوا بأنهم ضحايا آلية جهنمية تعمل تهميشاً للريف السوداني عامةً، ومحقاً للمجموعات الأفريقية ثقافةً ولغةً وكياناً، ثم إبادةً كنهاية طبيعية لهذا المنزلق.
    لكن، تُرى هل سننتظر كل هذه السنين حتّى تكتشف القوى السياسية أيضاً ما يحيق بالنوبيين وباقي المجموعات المهمّشة كالمناصير وغيرهم، ثم بالسّودان؟ أوليس من المؤسف أن الإقرار بأن مجموعةً ما تقع داخل دائرة التهميش لا يتحقق إلاّ بعد أن تُسفك دماء الأبرياء من المجموعة، والذين غالباً ما يكونون من الأطفال والنساء؟ فحتّى الآن لم تجرؤ أي قوّة سياسية على التّطرّق لموضوع بيع الحوض النوبي ولو من باب المجاملة. هل ذلك خشيةً من مصر التي ـ بعد اعترافها بالانقلاب الإنقاذي حتى قبل أن يعترف به مدبّره الترابي ـ قد احتضنت المعارضة؟ هل كان ذلك تدجيناً للمعارضة، خاصّةً التّجمّع؟ يبقى أن نسمع منهم.


    توحيد قوى الهامش
    جبهات الشرق والغرب: رأس الرمح
    إن جبهة الشرق وحركة تحرير السودان، بوصفهما رأس الرمح حالياً فيما يخص المجموعات المهمّشة في مجالي السلطة والثروة يمكنهما أن تلعبا دوراً حاسماً في توحيد قوى الهامش. لقد نهضت مجموعات الهامش، كلٌّ على حدة، مطالبةً بحقوقها دونما تنسيق، محكومةً في ذلك بعوامل موضوعية وأخرى ذاتية. ولا تزال حتى الآن ينقصها هذا التنسيق. والآن، عندما تنضمّ إلى هذا الرّكب مجموعات أخرى مهمّشة كالنوبيين والمناصير لتُكْمِلَ الطّوق (شمالاً، جنوباً، غرباً، وشرقاً)، ينبغي لها أن تلعب دوراً حاسماً في كسب هذه المعركة. إن على جبهة الشرق وحركة تحرير السودان أن تعملا سويّاً لتوحيد قوى الهامش في الغرب والنيل الأزرق والأنقسنا وجبال النوبة والشرق والشمال. فتوحيد قوى الهامش يمثّل ضرورة للسودان أجمع في صراع القوى المهمّشة لنيل حقوقها، الأمر الذي تبيّن أنه لن يتمّ إلاّ بتفكيك ماكينة التمركز والتهميش. إن هذه الوحدة، فضلاً عن كونها ستشكل الأغلبية الكاسحة إذا ما تحققت، تقلب المائدة على التكوينات السياسية الكلاسيكية، من يمين ويسار ووسط إلخ، والتي تبين أنه لا فرق بينها جوهرياً وذلك عندما تبلغ الاستقطابات السياسية والأيديولوجية ذروتها، وما التجمّع إلاّ أوضح مثال في هذا.

    إستراتيجيات الوحدة
    لقد لفتت العديد من مجموعات الهامش أنظار العالم إلى قضاياها، فمنها من حسم أمره ومنها من لا يزال حتى الآن في طور المفاوضات. لكن هذا لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن تلك التي لا تزال في المُربّع الأول، كالنوبيين في أقصى شمال السودان وكالمناصير، ثم كل المجموعات الأخرى والتي لا بدّ أن تكتشف تهميشها عمّا قريب فتلحق بالركب. ولكن خطوة كهذه لا يمكن أن تتم إذا ما زلنا ضحايا الإلتباس الناجم عن التمفصل الخطي الذي ينظر للمسألة باعتبار أن الشمال المتميّز هو الذي جنا علي الهامش، وهي النظرة التي جعل منها المؤتمر الشعبي الآن محوراً لخطابه الجديد في سلسلة تقلّباته السياسية وتلوّناته الأيديولوجية. إن ما يُخشى هو أن تحسم كل مجموعة هامشية قضاياها بمعزل عن المجموعات الأخرى، لأن ذلك يمكن أن يُفضي إلى نصرٍ كاذب بأن تُعزل كلّ مجموعة عن الأخرى كيما يسهُل أكلهم كل واحدة على حدة. ما هو أسوأ من ذلك أن تجد كل مجموعة نفسها في النهاية وحدها في ميدان المعركة تواجه أكثر من عدو خارجي في سياق الخط الأمريكي الرامي لتفتيت وتفصيص الدول ذات المساحات الجغرافية الكبيرة، ما يعني ذات الفاعليات والموارد النهضوية الكبيرة [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، تحت الطبع]. لذا تذهب هذه الورقة إلى أن مدخلنا للنضال من أجل حقوقنا يتمّ عبر توحيد قوى الهامش. هذه الوحدة ينبغي تبدأ بالمجموعات المهددة تنموياً وثقافياً أولاً، ولا يحسّ بالنار إلاّ من يطأها بقدميه. بعد ذلك على هذه الوحدة أن تنهض على أرض صلبة من المبادئ قوامها الديموقراطية القائمة على الاعتراف بحق المجموعات الثقافية في التنمية والحفاظ على هويّاتها، ثم على العلمانية القائمة على فصل الدين عن الدولة ورفض كل أشكال استغلال الدين لتسويغ الأفكار الفاشية مثل تلك التي رفد بها تنظيم الجبهة الإسلامية المارق على الديموقراطية والتي تآمر ضدها ليقيم النظام الفاشي الحالي الذي ارتكب الإبادة ضد أهلنا بالجنوب وجبال النوبة والأنقسنا والشرق، ودارفور.

    تكتيكات الوحدة
    إن توحيد قوى الهامش ينبغي أن يمرّ عبر بوابة المجموعات المهمّشة تنموياً وثقافياً، أي تلك التي تعاني من التهميش التنموي كباقي المجموعات السودانية، ثم تزيد على ذلك بمعاناتها من التهميش الثقافي ممثلاً في ضياع اللغة والهوية. في الجانب الآخر، وبما أن المجموعات المستعربة التي مورس التمركز والتهميش باسمها، لم يكن حظها أفضل تنموياً، فإن هذا الأمر يستوجب منها أن تسارع باكتشاف تهميشها ومن ثم الوقوف في خندق واحد مع باقي القوى الأفريقية المهمشة، وذلك في سبيل تفكيك مركزية الدولة وسياساتها التهميشية. إن المعركة الحاسمة في مناجزة الدولة المركزية قد تجري داخل شوارع العاصمة المثلّثة وأحيائها التي جذبت إليها أهلنا المهمّشين لامتصاصهم وتذويبهم ومن ثمّ إعادة إنتاجهم ثقافياً كما تجذب الثقوب السوداء إليها كائنات الكون فتحيلها إلى العدم.
    في هذا لا يملك المرء إلاّ أن يشير إلى الإمكانات السياسية والفكرية الهائلة التي تنطوي عليها هذه الوحدة. في هذا سأضرب مثالاً واقعياً متّخذاً من مناطق مثل الكلاكلات والحاج يوسف نموذجاً، وذلك لاكتظاظها بأهلنا من جميع أقاليم السودان، مثل مناطق أخرى كثيرة بالعاصمة. إن تحالفاً يجمع أهل الجنوب مع أهلنا بدارفور مع أهلنا من جبال النوبة مع أهلنا من منطقة المناصير، مع أهلنا من منطقة النوبة بشمال السودان، مع أهلنا من منطقة الأنقسنا وصعيد النيل الأزرق، مع أهلنا من جبهة الشرق، فضلاً عن القوى المستنيرة من باقي أقاليم السودان .. إن تحالفاً كهذا، فضلاً عن أنه سيكتسح أيّ انتخاباتٍ تُجرى في بحر أيامنا القادمة، سيقلب الموازين على كل الأصعدة. فهو أولاً سيفرز الكيمان أيديولوجياً، بصرف النظر عن مسمّيات اليمين واليسار والوسط التي لم تجدنا فتيلا. ثانياً سيظهر هذا التحالف من هم الأغلبية ومن هم الأقلية على أرضيةٍ من الواقع صلبة. ثالثاً ستتوفّر ولأوّل مرّة منذ قيام دولة الفونج الفرصة الحقيقية لتفكيك ماكينة التمركز والتهميش إلى غير رجعة، ليقف السودان ولأول مرّة منذ 500 سنة على قدميه الحقيقيتين، مارداً أفريقياً يتكلّم بأكثر من مائة لغةٍ معترفٍ بها من الدولة من بينها العربية والإنكليزية.
    بهذا، وبهذا وحده يمكن لقوى الهامش أن تصنع التاريخ والمجد، وهو تاريخ قد صنعته منذ الأزل وباقي الأمم لمّا تصحُ بعد من سباتها. إن المدخل إلى هذا المجد أن تتّحد قوى الهامش أولاً، وهي وحدة نراها قريبة من حيث إمكانية تحقّقها؛ بعد ذلك على قوى الهامش أن تُلقي بكلّ ثُقْلها خلف الحركة الشعبية، رائدة نضال القوى المهمّشة، لكسب جولة الانتخابات القادمة. في هذا ستحتاج القوى المهمّشة إلى رؤية ناهجة للنهضة بها تَطْرِقُ الدّربَ عن بيّنة لا تحسّساً وتلمّساً تتمثّل في الجمع بين الثقافة والتنمية.

    التنمية والثقافة: المدخل إلى تفكيك آليات التمركز والتهميش
    إن آليات التمركز والتهميش لا يمكن أن يكتمل تفكيكها، حتى إذا تمّ تفكيك عرى هذا النظام الفاشي، إلاّ إذا ما تمّ ربط الجانب التنموي مع الجانب الثقافي في عملية مركبة واحدة دون فصل بينهما. إن هذه الخطوة تستدعي النظر إلى المواطن التاريخية بالنسبة للمجموعات المهمّشة بوصفها أقاليم ذات خصوصية إثنية وثقافية، وبالتالي تنموية وسياسية، الأمر الذي يضعها جميعاً على قدم المساواة مع باقي المناطق المهمشة وما يتبع ذلك من التقسيم العادل للسلطة والثروة والحفاظ على الهوية واللغة. في هذا تذهب الورقة إلى ضرورة الاعتراف بحق كل المجموعات الأفريقية التي تعاني من التهميش المزدوج في تقرير المصير والحكم الذاتي، وأن تكون لكل واحدة منها حكومة إقليمية ببرلمان إقليمي وتتمتع بحق إرساء الاتفاقيات مع الجهات الخارجية بما لا يتعارض والسيادة القومية وذلك بغية توفير التمويل اللازم لمشروعات التنمية.
    إن جعل التخطيط التنموي تخطيطاً ثقافياً معنياً بكل أدوات ومؤسسات الثقافة والوسائط المعرفية الأخرى من وسائل اتصال جماهيري، ومسرح ومهرجانات، يقوم على هذه النظرة والتي بدونها سينهدم الأساس المشروع لرفع الفقر والتهميش تنموياً وثقافياً. إن من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها محطة إذاعة وتلفزيون تبثّ بلغاتها. كما من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها صحف ومجلات بلغاتها أيضاً. إن كل هذا لن يتأتّى لهم إلاّ إذا تمكنّوا من دفع فاتورة هذه النهضة. فالثروة والرفاهية لا تهبط على الناس من السماء، بل يصنعها الناس بالرؤية الناهجة وبأيديهم وقوّة عزيمتهم. إن هذا هو ما يستوجب منّا النظر إلى أي المناطق الجغرافية ذات المجموعات الأفريقية التي عانت من التهميش المزدوج بوصف كل واحدٍ منها إقليماً قائماً بذاته وذا خصوصية ثقافية وتنموية وبالتالي سياسية.

    تقرير المصير أم الانفصال
    إنه لمن الخطأ الفادح أن يتعامل المرء مع مصطلحي "تقرير المصير" و"الانفصال" باعتبارهما مترادفين. ذلك لأن مفهوم تقرير المصير يقوم في أساسه على أن مجموعةً بعينها قد تعرضت للظلم التاريخي من قبل المركز، وفي سبيل رد هذه المظالم فقد أُعطيت الحق في أن تقرر مصيرها وكيف يكون أمرها داخل الدولة السودانية بنفسها، فإذا ما تمّ لها ذلك، استمرّت على الوحدة، وإذا لم يتمّ لها ذلك نزعت عندها للانفصال. لقد تعرّض الجنوب للظلم والاضطهاد لقرون وقرون؛ ومما زاد الأمر سوءً ذلك الإزراء بالعرق الأفريقي وباللون الأسود التي اتّسمت به الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في السودان، أي بلد السود. ولم يقف هذا الإزراء أن بلغ حد التمييز العنصري، بل فاته ليتّحد مع مفاهيم مؤسسة الرق وارتباطها بأفريقيا السوداء دامغاً بذلك كل إنسان أسود، في بلد اسمه "السودان"، أي بلد السود، على أنهم عبيد [راجع أحمد سيكينجا، 1996].
    لقد كانت هذه هي الأسس الأخلاقية التي قامت عليها نضالات قوى الهامش يقودها أهلنا في جنوب السودان لوحدهم لعقود وعقود، حتى لحق بهم الآخرون من أهلنا بجبال النوبة والأنقسنا، فدارفور والشرق دواليك، والبقية آتية. إزاء تعنّت الدّولة (الحامية الرئيسية للأيديولوجيا الإسلاموعروبية)، وإزاء الخسائر الجسيمة في المال والأرواح التي ظلّت تدفعها مجموعات الهامش، نزع بعضها نحو الإنفصال يأساً من هذه الدّولة السّودانية التي يقوم مشروعها الوطني على بوتقة الانصهار والتمركز والتّهميش. وهذه هو مأتي اللبس في الدمج بين المصطلحين. إننا لا ينبغي أن ننتظر حتى يبلغ الظلم والاضطهاد بباقي مجموعات الهامش ما بلغه بأهلنا في الجنوب. وهذا ما يستدعي المطالبة بحق كل المجموعات المهمّشة بتقرير المصير لتحدد موقعها من الإعراب في خارطة السودان الواحد، حتى إذا لم تُعطَ هذا الحق، حُقّ لها حينها أن تطالب وتواصل نضالها من أجل الانفصال.
    أما أن يشرع بعض المثقفين بالترويج إلى أن على مجموعات الهامش بالمطالبة بالانفصال قبل ذلك، متّخذةً من المطالبة بتقرير المصير بوصفه مقدّمة طبيعية للانفصال، فإنه لا يعالج شيئاً، ذلك لأنه ينطوي على هروبٍ من المشكلة. فالمشكلة هي كيفية إدارة التّعدّد والتّنوّع الثّقافي والإثني من حيث توزيع السلطة والثّروة. فإن عجزنا عن إدارة هذه المشكلة وهي في إطار تشكيلاتها الكبرى (الجنوب، جبال النّوبة والإنقسنا، دارفور، الشّرق، والشّمال، ثم الوسط)، فإنّا سنكون أعجز عن أن ندير المشكلة وهي في إطار تفصيلاتها الدّقيقة. ذلك لأن الجنوب متعدّد ثقافيّاً أيضاً، كما هو الوضع في دارفور، وفي كل إقليم على حدة. فكأنّنا سنهرب من مشكلة التّعدّد، لنقع في ذات المشكلة لاحقاً. إن من يعجز عن إصلاح ساعة حائط، سيكون أعجز عن إصلاح ساعة يد. أهدى من ذلك أن نستعصم بوحدة السّودان كهدف إستراتيجي، ومن ثمّ نوحّد الجهود لتفكيك مركزية الدّولة.
    إن برنامج الأحادية الثقافية هذا لم يعد الآن في صالح السودان، كما إنه لم يعد في صالح الثقافة العربية ـ الإسلامية نفسها. لكل هذا، آن الأوان كيما ننتقل ونتطور من مرحلة "بوتقة الإنصهار" إلى مرحلة "الوحدة في التنوع" حيث تتوازن حقوق الجماعات والثقافات في الرفاهية والنماء. لقد دخل السودان منذ استقلاله وحتى الآن فى متوالية عددية من الفشل. فكل نظام حكم كان أفشل من سابقه ديمقراطيا كان أم عسكرياً. إن القاسم المشترك الأعظم لكل هذه الأنظمة كان ـ ولا يزال ـ هو عملية التمركز والتّهميش. عليه إن هذا الفشل هو فى الواقع فشل مشروع الأحادية فى إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات [لمزيد من التفاصيل، راجع: محمد جلال هاشم: 1999].

    السودان الجديد: الحرية والعدل والسلام
    إن السودان دولة متعددة الثقافات والأعراق والأديان والألوان والأقاليم، مما يفرض علي مؤسسة الدولة أن تحترم وتدافع عن هذه الحقوق الأساسية. إلا أن مؤسسة الدولة في السودان تشكلت وفقاً لأيديولوجيا ثقافية ودينية أحادية، فكان أن تورطت بشكل مباشر في مجمل عمليات التمركز والتهميش، وما تبع ذلك من قهر واضطهاد ثقافي وعرقي وديني. إن الكثير من الفوارق والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في السودان ساهمت مؤسسة الدولة في صنعها وتكريسها. لا يمكن للإنسان أن يقبل بالقهر والدونية، وإن شروط الحياة الكريمة يجب أن تقوم على مبادئ الحرية والعدل والسلام التي تقوم على أساس أن الناس متساوون في الواجبات والحقوق التي يكسبونها بالمواطنة، دون اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين أو الوضع الاجتماعي، إذ لا سلام بلا عدل، ولا عدل بلا حريّة. إن أي توجه أو قانون يقوم على التمركز والتهميش، أو يؤدي إلى وضعية كهذه، لا يجوز أن يصدر من مؤسسة الدولة، بل ينبغي على الدولة أن تعمل على إلغائه. لذلك عندما تتبنى الدولة موقفا كهذا، يكون من حق المجموعات الأخرى مناهضة ومحاربة هذا الوضع الظالم لإزالته. إن التعايش السلمي لا يمكن تحقيقه وحراسته إلا من خلال دستور يراعي الحقوق الأساسية لجميع المواطنين دون تمييز عرقي أو ديني، ويؤسس للديموقراطية التعددية وحكم القانون وحقوق الإنسان وذلك بعد أن يتم تفكيك آليات التمركز والتهميش.


    مراجع عربية
    • أبكّر آدم إسماعيل (1997)، جدلية المركز والهامش (3 أجزاء)، الخرطوم.
    • إنتصار الزين صغيرون (1999)، "معاني أسماء الالسودان القديمة ودلالاتها الجغرافية والثقافية"، ورقة مقدمة لمؤتمر الأسماء الجغرافية، اللجنة القومية للأسماء الجغرافية بالتعاون مع جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، قاعة الشارقة، الخرطوم، 6 ـ 8 أبريل.
    • حركة العدل والمساواة (2003)، الكتاب الأسود، الجزء الثاني.
    • عبد الغفّار محمد أحمد (1988)، قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.
    • منصور خالد [1993]؛ النخبة السودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة
    • محمد جلال هاشم (1999)، منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديموقراطية في الثقافة السودانية، الخرطوم.
    • الواثق كمير (إعداد وتحرير) [بدون تاريخ]، جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والاستراتيجيات، القاهرة.
    مصادر أولية: مذكّرات وصحف
    • جريدة الصحافة، عدد 3892، 31/3/2004 (الصفحة الأولة)، عنوان: "طرح 6.1 مليون فدان في وادي حلفا أمام الشركات المصرية وفق عقود انتفاع طويلة الأجل".
    • مجموعة العمل النوبي (2004)، "المذكّرة المرفوعة إلى كوفي عنان بشأن بيع الحوض النوبي لتوطين ملايين الفلاحين المصريين)، الخرطوم، 18 أبريل 2004.

    مراجع إنكليزية
    • Hasan, Y.F. “ed.” (1971), Sudan in Africa, Khartoum University press.
    • (1973), The Arabs and the Sudan: from the Seventh to the Early Sixteenth Century, Khartoum University press, Khartoum.
    • Hāshim, M. Jalāl (2005), "Sudan Civil Wars in the National Context", a Paper presented in the 5th Conerence of Pan Africanism, 26-29 May, Windhoek, Namibia.
    • ………………….. (Forthcoming), To be or not to be: Sudan at Cross Roads, Khartoum.
    • Mazrui, Ali (1971), “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.
    • Sikainga, Ahmed [1996]; Slaves into Workers: Emancipation and Labour in Colonial Sudan, Modern Middle-Eastern Studies No. 18, Austin, Texas.
    • Welsby, D. “ed.” (2000), Life on the Desert Edge: Seven Thousands Years of Settlement in the Northern Dongola Reach of the Nile, Sudan Archaeological Research society, London.

    مواقع شبكية
    • www.ahram.org.eg/archive/Index.asp
    • www.aljzeera.net/channel/aspx
    • www.ethnologue.org

    ورقة عمل قدمت في إطار "نداء لندن من أجل السلام والتنمية والعدالة في شرق السودان"، 17 سبتمبر 2005.
    The London Call For Peace, Development & Justice in Eastern Sudan, 17 September 2005, Wech Community Centre, Harrow Road, Athens Gardens, Elgin Estate, London WG 3RZ