السبت، 27 أبريل 2013

مــن أيــن يأتى هـــؤلاء ؟


الطيب صالح 


السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب ؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين ؟
يريدون الهرب الى أيّ مكان ، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم . كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين .
يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم . لا أحد يكلّمهم .
لا أحد يهمّه أمرهم .
هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى ؟ وعن الأمن والناس في ذُعر ؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب ؟
الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب ، تنام منذ العاشرة ، تنام باكية في ثيابها البالية ، لا حركة في الطرقات . لا أضواء من نوافذ البيوت . لا فرحٌ في القلوب . لا ضحك في الحناجر . لا ماء ، لا خُبز ، لاسُكّر ، لا بنزين ، لا دواء . الأمن مستتب كما يهدأ الموتى .
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم ، ويعزف لحنه القديم " السادة " الجدد لايسمعون ولا يفهمون .
يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل . يعرفون الحلول . موقنون من كل شيئ .
يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة .
يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأم
مِن أين جاء هؤلاء النّاس ؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات ؟
أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب ؟
أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط ؟
أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟
أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد ، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي و المصطفى ؟
أما قرأوا شعر العباس والمجذوب ؟
أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة ، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟
إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه ؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة . أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء ، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق .
من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات ، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات ؟
هل حرائر النساء من " سودري " و " حمرة الوز " و " حمرة الشيخ " ما زلن يتسولنّ في شوارع الخرطوم ؟
هل ما زال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال وأهل الشمال يهربون الى أي بلد يقبلهم ؟
هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط ؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب ؟
من أين جاء هؤلاء الناس ؟ بل - مَن هؤلاء الناس ؟

الأحد، 21 أبريل 2013

كاماسوترا الكتابة


عماد عبدالله


و هي تفرغ من تنضيد الوردات على أصيصٍ من خزف أزرق - و النافذة تفتح على وجهها حزم الضوءِ, فيليق بالضوء الغنج - قالت : هذه تصفيفة " الكوماسوترا ".. خصيصاً لك .. sir .
فأنا الآن " سير " . تأملتها, كان الله جميلاً فيها .. و في باقة الوريدات, و في النافذة .. و عندي جميلا .
التف ساق وردةٍ بوردة - و التويج يغرق المِتَكَّ بالقبل -
عالجتُ جلستي - يا مستقر جسدي الذي انتصب - و أمعنت في التأمل . ( ضربة الفرشاة الأولى باللون .. القبلة الأولى .. الرعشة الأولى .. أول ابتدار الكمنجة بالحنين .. المذاق الأول لكأس .. أول المداعبة .. أول الوحي .. و الليل في أول الحشرجة ) .
...
جوقة التبليغ : ( مولاي .. مَن صاغَ أولك ؟ ) .
...
الرحلة رقم 452 .. هنا سموات الأناضول . و بحر إيجة من تحتي .
جاء مقعدي و النافذة عن يميني , قربي شيخٌ قال بأنه من الأرمن ، و أخرصني بالكلام الكلام الكلام .. حتى تعب فكف فنام طوال بقية الرحلة .. و الليلُ في أول القطف . جاءت البنت التي على وجهها الله تبدّى .. لمزتني بالعين و الغمازتين . طلبتُ منديلاً منها ، و طلبتُ ماءا . المقصورة في الطائرة تغط نائمة .. إلا أنا و الليلُ هذا, و بقعة الضوء التي لاذت بفخوذ الورد الشبقة , و بقايا الكلمات التي لم أقل .. ثم فشهوة وشيكة الهطول .
قلت : what about the Kamasutram?
قالت غانجتي : You better ask Nandi, he heard the entire whispers
...
ضربة الفرشاة الأولى باللون .. القبلة الأولى .. الرعشة الأولى .. أول ابتدار الكمنجة بالحنين .. المذاق الأول لكأس .. أول المداعبة .. أول الوحي .. و الليل في أول الحشرجة .. ثم شهوة الكتابة .
...
جوقة الحكمة : ( أكتبي يا بنت الناس .. هل ؟ ) .
" شيفا " و " بارفاتي " يزالان بركاناً ..
و ناندي في أول التدوين .
ـــــــــــــــ
يومان ثم و كان فاجأني المخاض في البحر . فوقه ..
نورسٌ وحيد , تبع العبارة المتبوعة بأجاج الرغو الصّعاد .. يتكاثف علواً لينخفض مبتلعته الزرقة . رقبت النورس لبعض وقتٍ و السماء تستحيل برتقالة .. ثم حلوى برقوق ، ثم حناء محمرةٌ عظيمة . تذكرت تاج السر الملك و " جوناثان ليفينغستون " ، و رسم بالأبيض و الأسود لطيرٍ غريب , ضخمٌ ، يسد جانحيه حدقتي الهوامة في أضواء الليل الملتمعات على السطح اللازوردي المحمر .
ثَمَّ برد خفيف قرصني في شحمة أذني .. فتلثمت بكوفية نلتها من بازار التُرك الذي في عورة المدينة . استزدت دفئاً - بلذة ما - فعدت رفعتُ ياقتي ، و رفعت ظني في الله .. حتى حَسُنَ .. و ركنت للسكون المموسق إيقاعه .
هذا سلامٌ عجب .
نوارس أخرى عجّ بها البحر .. و بها رعفتُ حتى استدقت روحي فشحِذت و امتشقت فارعة .أصوات القوم في علية العبارة تتقاطع خفضاً فعُلوّا , ذلك و صخات النوارس و الهدير للموج من تحتي ، و الرغو و طقطقة المحركات .. و و و .. يتكالب عليّ العرس في يافوخي .. فيحمحم دمي .
توالدت الدنيا : الأصوات و الروائح و الطعوم و الملامسات ، و البهار في ذاكرتي . إجتمعن عليّ فوقّعَن الصورة تلك فذيّلنها.. و كنتُ الإطار المعدني المنصهر .
هو المساء يرخي غبشته .. و الليل قطفة أولى بعد . ثمة عاشقين عن يميني يقتعدان حافة الإفريز الحديدي للعبارة . اندغما حتى فاختلطا . لبرهة - و البحر و الليل و النوارس و الأزيز و الأرجحة و الموج و خيوشمي .. و العاشقين الملتحمين في الحمم . تنبأتُ بمازورة أولى لسيمفوني هو لا محالة مرتكبني - برهة اجتمعت فيها الأنوات بسلامتها : معطيات الله الصنيعة .. و أنا . لقيتُ الكون مُشرَعا لي .. أفقاً حدادي مدادي .. الأبواب و النوافذ و المنافذ و الجخانين الـ ........ انفتح سَمسَمها , فأيقظن للشعر هسهسته القديمة :
( خِلتُ لمَّا
سَلّمَتْهُ الوَسَطَا
كَبِدَينِ اختلطا
حينَ ضُمَّا )
إشتهيت ما اشتهيت آن غزوٍ ..
و تعددتُ نوايا و نوايا و نوايا ، في كل ما يُشتَهى تعددت .. عدتٌ ملايين الأنوات .. و بقيتُ كذا .
حتى فانتقتني الكتابة قالت : " باب الروح متاكة " ..
فانسربتُ .. فكتبتْ :
إلهي .. ما أجملك .

٢٠١١