الاثنين، 17 فبراير 2014

عن فيديو الراعي السوداني

فيديو بسيط يظهر فيه بعض الشباب الخليجيين الذين يحاولون "جر الهواء" براعي سوداني، تتداوله أيدي السعوديين حتى يلتقطه أحدهم يرفعه على مواقع التواصل الإجتماعي بعد أن يضع عليه تعليقات تشرح لغة الشاب لمن لا يفهمونها، يبدو أن حوار الراعي مع هؤلاء الشباب قد وقع لمن رفعه في جرح فهو يتطابق مع حديث منقول عن إبن عمر يختبر فيه أمانة "رويعي مملوك"، فيقوم أحدهم بإستخدامه بما يخدم خطاب و آيديولوجيا الجماعات السلفية، و هذا واضح من التعليقات المكتوبة و يتبعه وعظ صوتي لشيخ يبكي و هو يخطب في جمع و هو يحكي لهم قصة إبن عمر، بحيث يربطها ربطاً مباشراً لتثبيت و تدعيم القوالب السلفية بما يموضع الموقف المشاهَد على الفيديو في إستحضار نموذج ابن عمر الذي يمثله هؤلاء الشباب الجالسين على عربتهم الفارهة، بينما يمثّل الراعي السوداني نموذج الرويعي المملوك، و إن لم يكن راعينا مملوكاً لكي يلقى جزاءه في الدنيا حريّة فقد لقيه جائزة تساوي عشرين ألف ريال. و بهذا فإن المؤسسة الوهابية المشتغلة على سلفنة المجتمع في إستحضار ما غاب عنه من قيم، و ما تسعى لتكريسه من أخلاق تمثّلتها في هذا الراعي، أخلاق تمثل صميم خطابها مثل الأمانة و الخوف من عذاب القبر و العقاب الأخروي و مخافة الله.



يصل الفيديو لأيدي السودانيين الذي يرون فيه ما اندثر من أخلاقهم التي ضربتها معاول الهدم و التخريب في زمان الإنقاذ، و لا يخفى على عينِ مراقبٍ الخراب الوجداني و القيمي الذي يحيط بنا، و كيف أن مجتمعاتنا السودانية صارت تعيش في أزمة كبرى كونها صارت أسيرة لهذا الواقع المهزوم و المأزوم في سياقنا الحاضر. فيبدو أن الفراغ الروحي و النفسي الذي يملأ حياتنا، و الكآبة التي نقبع تحتها في جحيم و وطأة الضغوط الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية، جعتلنا نتماهى بصورة غريبة مع فيديو الراعي السوداني المشهور، فدُبّجت المقالات و انتشرت التعليقات في كافة وسائل الإعلام، بصورة تجعل الناظر إلى حالنا يشعر بالرثاء و الشفقة علينا و على ما آلت إليه أمورنا، للدرجة التي جعلتنا نبكي أخلاقنا الضائعة و قيمنا المفقودة و مجدنا المندثر، هكذا صارت حياتنا و أخلاقنا و ما نفتقده وقفاً على هذا الشاب الذي أنقذ ما تبقى من "الزمن الجميل!" و أعاد لنا الأمل في أنفسنا] بكل هذه البساطة!![  ألسنا ندعو للشفقة حقاً؟
خلاصة ما أريد قوله أن الإحتفاء بقيمة تصدر عن فرد أو مجموعة أفراد فهذا يعني غياب تلك القيمة عن المجتمع، فلا يعقل الإحتفاء بالصدق في مجتمع كله من الصادقين، بل الطبيعي أن يستنكر الناس الكذب لأنه غريب عليهم! إن أولويات الأخلاق ترتبط إرتباطاً مباشراً بدرجة الوعي و التقدم الإجتماعي، لقد سبق و أن حكيت للكثير من أصدقائي كيف
 أني رسبت في مادة اللغة العربية في سنتي الجامعية النهائية لأنني جادلت أستاذة المادة عن مفهوم مكارم الأخلاق، لأنه من الواضح أن مفهوماً مثل الكرم لا يمكن أن يكون قيمة أخلاقية في مجتمعات الرفاهية و العدالة الإجتماعية، كما أن قيمة الشجاعة لا يمكن أن تكون مهمة في مجتمعات آمنة و خالية من العنف! لهذا فإن إهتمامنا بقيمة مثلا الأمانة يوضح درجة الإنحطاط الأخلاقي و الإجتماعي التي وصلنا إليها.

أنا لا أتعامى عن أمراضنا الإجتماعية و عن الأزمات التي تحيط بنا، و لكنني أعتقد أن هنالك أولويات قيمية لمجتمعنا تستحق الإلتفات إليها بصورة جادّة، مجتمع عنصري، عنيف، يمارس التمييز ضد النساء و ضد المختلفين عرقياً و دينياً، تصل درجات التسامح و قبول الآخر فيه إلى الصفر، مجتمع يعاني من الفساد و التخريب المنظم، يفتقد القيم الأساسية لعالم اليوم: قيم حقوق الإنسان و القيم التي تحتفي بالكرامة البشرية، إن هذه الحادثة مؤشر خطير ليس على درجة التردّي الأخلاقي التي نعيشها بل هو مؤشر أيضاً على إختلال أولوياتنا في تعريف القيم الأخلاقية التي نحتاجها، هل وصل بنا الإنحطاط هذا الدرجة المريعة بحيث أننا تفتقد شيئاً هو من أبجديات الأخلاقيات المسلّم بها، حتى أنها لم تكن محل تساؤل و بحث ناهيك عن أن يحتفي بها الناس بهذه الصورة؟