الاثنين، 27 مايو 2013

الحـــــــــوت..أسطـــــــــورة تمشــــــــــي بين الناس

عبدالرحيم حسن حمدالنيل

"حوذينا الجميل..
إرفق بنا وصدقنا .
يا حوذينا الأرعن الجميل،
ليس ثمة سفيرة في انتظار خيولك
غير هذه القلوب المرتعشة .
يا حوذينا ذو الاسم الباهر
إرخ لخيولك قليلا
و اصغ لزفيرنا المكتوم
واغفر لنا كل ذلك الحب".
قاسم حداد
*هبط محمود عبدالعزيز على كوكب الغناء السوداني طليقاً برياً ضارياً وعاصفاً بصوته النادر القوي المتفرد، وحنجرته التي يسكنها شعب من الفتنة والسحر والجنوح، وهو يؤالف بين أجيال وطيور ومسادير وقلوب وفلوات وأشجار في هذه البقعة من الكون الصغير المعدة لاختبارات الحياة والعدم.
*غناء الحوت هو غناء الحياة بتيهها وسحرها وجاذبيتها؛ هو غناء للحياة بشجنها القارس، وقسوتها الماجنة، ونذالتها المروّضة بالتكرار والعادة، وهو غناء العذابات التي لاتخطئ الدرب والمسالك للدم ، والهزائم التي تشبه الانسان ، والمنازل القمرية في حدوس اللحظات حال كونها هاذية في غيبوبة الجنس البشري.
*تجربة محمود تجربة كبيرة جديرة بالحياة؛ وجديرة بالاحتفاء لأنها أخذت من الحياة السودانية شجنها الأسطوري والغريب ولأنها سدت منافذ كثيرة كان سيعبر من خلالها الغث المطفف باللا أصالة واللا روح والابتذال.
* الحوت شهقة هذه البلاد الكبيرة الحزينة ضد القبح والتكرار والملل.
* صوت محمود عبدالعزيز هو الصوت المأهول بالجِدة والجبال والوحشية وقوة العناصرواللوعة الساحقة.
* سيرتكب هذا الفتى النحيل حماقات متعددة وماحقة ستزيّن مسيرة تجربته الخلاقة وسيعثر في الاثناء على نفسه البهية التي حملتها أنفس كثيرة عاشقة ومعجبة، ولن يجد معارضوه مشقة كبيرة في وضع المتاريس أمامه ولكنهم سيصطدمون بقدرته الهائلة على الصمود والاستمرارية ، على مجابهة كل هذا وعدم الالتفات الى عوائهم الجبان والمدهون بالضغائن والقبح.
* سيحمله جيل كامل أيقونة ضد العادية والتشابه وسيحتفون به، سيحملونه في قلوبهم الصغيرة الكبيرة المنكسرة والممتلئة بعافية التوق والحياة والجمال والمصادمة ، سيجدون فيه البطل المغني كما في الأساطير القديمة وسيقصون الاف الحكايا عنه، عن اختلافه
عن انبهار العالم به ,
وهم يعنون بالعالم كل شخص صادف صوته في أي مكان ونبش ذلك الصوت جهازه العصبي بصدمة الطرب والحلاوة الحريفة، وسيكون هو صوتهم ودليلهم في ليل السودان الطويل.
* سيكون محمود عبدالعزيز هو الشجن الأزلي لبلاد ستترنح دائماً أمام الجديد وتعاديه، واللوعة التي سكنت شرايين المعنى في نسيج الغناء والروح الهائمة في فلوات التطريب والنزوع الى اللا نهائي .
* الحسرات التي قطنت صوت الفتى النحيل ودهنت أسطورة صوته بالشعرية الالهية ستزيد من سحره ، وستجلل تجربته بحزن أصيل وجاذب.
* سيذهب محمود بالغناء الى أمكنة بعيدة في التأويل والجسارة، سيذهب به الى جوارحه نفسها القابعة في جنوب الروح والمصادفة الرفيعة في فكرة المصائر والنشوة الجغرافية والخصائص الرفيعة لفكرة الحب والتطريب .
* لاشئ سيغطي على أسطورة محمود حتى لو كره الكافرون بموهبته وندرة حضوره الملحمي.
* (ما بطيق لي غيره أسمع) كانت لافتة كبيرة رفعها الشباب في آخر حفل لمحمود، لأن محمود هو التعويذة الساحرة لهذا الجيل ولأنه بلاغة حوارهم مع الشروط الوجودية التي تؤسس لرفاهية فكرة الغناء في شرايينهم المدهونة بنكهة لوعة لاشرطية وشكيمة عبث لانهائي وجمال متدفق.
* (مابطيق لي غيرو أسمع) كانت مانفستو ضد المغاليق الادعائية لأصوات مشروخة بصدأ التكرار والتقليد والتشابه، كانت ردا على الأصوات التي تحاول استغلال ظهور الاسطورة بشكل مرهق في برنامج تلفزيوني لمصلحة خطابها السياسي الرتيبب والباهت المبني على توظيفات سادرة في المغالاة وسوء المقصد الكتابي.
* حل محمود عبدالعزيز على أرض الغناء السوداني طائراً في شئون القلب، يتبع نداء شغفه ، يكتب بحنجرته الساحرة مدونة الحب والهجر والعاطفة والحلم لشعب كامل من الطلاقة والخسارات يعبر عنه جيل من الحب.
* محمود سائر باتجاه اكتمال أسطورته بنحوله البهي وشكيمته القوية ،وروحه الهفهافة، وجسارة صوته الذي هزم النظام داخل إحكام سطوته، وسيستعصي على البحاثة المزيفين النزقين المستعجلين المسيئين لأدواتهم غير المجلٌوّة، ولأهدافهم القريبة الغريبة، بدوافع تتقشر بمعقولية سطحيتها ، وابتذال استخدامها داخل منطق سياقها نفسه وصياغة خطابها المُغرِض.
* وسينقش هذا الفتى النحيل ـ المنذور للخلود ـ على جسد الاغنية أوشاماً لن تذول ومنمنمات جميلة وباذخة ستقول أن شباباً ادركوا فرادته وندرته وصدقه ووسامة صوته وهم يرفعون لافتة كبيرة كتب عليها :
ما بطيق لي غيرو أسمع
*ولن يكون بوسع الفتى النحيل غير تحمل أعباء أسطرته وجمالها ودفع ضريبة اختلافه عن طيب غناء. لن يكون بوسعه سوى تحمل سهام النقد الفتاكة والضارة، لن يكون أمامه سوى أن يكون حائط مبكى الجميع، والذين سيعلقون عليه خيباتهم وخساراتهم، وسيمضي محمود بذات الرهافة والطيش المهاب الأخاذ، وسيهرق البعض جهاته الضالة على درب محمود وهو غير الآبه سوى بشغفه الأزلي بكل بساطة ورحابة معنى الغناء وجلال وجمال حضوره في حياتنا.
* جاء محمود من معضلة وجودنا المختلس هنا، جاء من نزيف شهوتنا لغناء يناسب اقتدارنا الممزق بين ضراوة واقع نزيه في هجرته نحو أقاصٍ بعيدة في خيال الموت، وسديم أحلام خفيفة نبتكرها قسراً لنعرف كيف نعيش، جاء محمود بصوت عوالم في نشيج الطبيعة وهي المحكومة بجدل غبطتها وضرورة قوانينها العبثية في حقول الشراسة المحتومة.
* صوت حودة هو نجاتنا من شراك الدندنات البائسة المكرورة المنزوعة من يأسها.
* غناء محمود عبدالعزيز هو اندلاع الأرض في سماء المتصور وجنون الطرب
آناء الجنوح المجيّش لزحزحة الغناء عن طوره الماثل في الصورة العامة السائدة.
*محمود أعاد للغناء شهوته ورتب شظاياه التي تناثرت على مهل ، أعاد للطرب براريه الرحبة بلا إدعاء، والاستماع لمحمود هو الرتبة الأكثر حنكةً من شغب الفانتازيا المحتملة.
* حفلات محمود هي الترف اللامحدود في صَدَفة اللحظة وهي السموات الرحيمة ببطش المتعة التي تتذلل الى طرب هائل ومعتوه، حفلات محمود هي الحياة في نزعتها الطائشة الغفورة، وهي زرقة الجهات ماثلةً في الأقواس، ورهينة الحواس التي تنمو في الدم حينذاك.
* الظلمة التي تنبت في قلوب البعض وتجعلهم يحملون معولاً فضفاضاً باتجاه محمود ليس لها سوى اليأس مأوى ولن تجد سوى البسالة الوحشية غير المروضة لتجربة فنان ما همه إن كانت الأض مستديرة أم مربعة بقدر ما تهمه نوازع أقداره ومصائره في كثافة غمره بالتطريب حتى أخمص كيانه المغموس في محيط السحر البدئي والإقتفاء الواعي لمسالك ودروب الغناء الغناءة..
*خيال صوت محمود الجامح سيرتاد كل مرةً عوالم وأكوان باهظة لأن خيال صوت محمود هو أيضاً عوالم وأكوان باهظة.
* سيشعل محمود مسارح كثيرة في هذا المكان وخارجه، وسيكون صوته المعبأ بالأسرار هو الترياق لضجر آدمي مقيم وانهيارات حياتية تسرف في غنجها المهتوك بخنجر السأم الصقيل، سيشعل محمود أرواحنا بالنجاة المهلكة،.
* أسرار عظيمة تقطن في حنجرة الفتى النحيل والذي سيوزعها كل مرة علينا ،سيغمرنا بما نعرف ومالانعرف بصوته القوي المشجون القاتل والأسطوري، وأسرار كثيرة وكثيفة ستجتاح كل من وهب نفسه ثانية فقط ليسكن صوت الحوت ويمنح نفسه إجازة من
أعمال اليوم والاجراءات السقيمة في نزهة مستحيلة ونادرة داخل صوت محمود.
* عبأ محمود حياتي بالغناء والحب وحب الغناء والحياة.
*شكراً محمود... فلقد عشنا عصراً أنت فيه.



* نشرت هذه الكتابة في صحيفة الأحداث اكتوبر 2011م