الأربعاء، 22 فبراير 2012

صحي بتملا عيني و تشرف غناي


منذ أن طرق أذني الخبر الذي شق على الناعي حمله، و صعب على المستمع إستيعابه، منذ تلك اللحظة التي أعلنت غياب الهرم الأكبر، و بدون أي ترتيب داخلي و بلا شعور مني وجدت نفسي أردد: (في حضرة جلالك يطيب الجلوس،،، مهذب أمامك يكون الكلام)، لازمتني هذه العبارة بشكل هستيري و تعالى هتافها في داخلي منذ لحظة النعي و حتى وجدتني و أنا أقف بوجوم و عيناي دامعتين أمام الجسد المهيب في مثواه الأخير، كان الحزن يشغلني عن الحشد المندفع ليلقي النظرة الأخيرة على الفرعون الراقد في سكون و صمت و هو الذي طالما ملأ الدنيا طرباً و إبداعاً و حباً و وطنية، و ما كان يسرقني من تلك اللحظة الرهيبة لكي أفيق من ترديد هتافي الداخلي: (في حضرة جلالك... مهذب أمامك) غير أن يتعالى هتاف من هنا أو هناك يحي وردي و يهتف بإحدى أغانيه الخالدة في الوجدان، أو يدفعني أحد المتدافعين الذين يحاولون الوصول إلى الصفوف الأمامية ليودع فناناً نُثِرت عليه الألقاب التي تمجده و تعظمه، و برغم ذلك خلد إسمه مجرداً هكذا (وردي)، برغم بريق تلك الألقاب و قوتها التي تحكي قصة حياته و مواقفه و تصور وقوفه منحازاً إلى شعباً ألهبته ثوريته فألهب وجدانه و تغنى لحريته و إستقلاله فوق أجنحة الفجر.
و أنا أستحضر بهدوء الآن ذلك النداء الداخلي العجيب ما زلت في حيرة من أمري، من كنت أخاطب في تلك اللحظة المنفعلة بالطير المهاجر و الحزن القديم؟ هل كنت أستحضر هيبة وردي و كاريزميته المليئة بالكبرياء و الصلف، و هو برغم كل هذا التعالي الذي اشتهر به يذوب تواضعاً و خشوعاً و هو يجلس على الأرض مردداً هذه العبارة الآسرة، أم أنني كنت أخاطب وردي نفسه و أنا أنحني أمام ذلك التاريخ الناصع و أنا أختصره في هذه المفردة التي أسرتني بشكل كامل: مهذب أمامك. و لكن ما أجزم به تماماً أنه لو صح لي إختصار وردي و التعبير عنه في ما لا يزيد عن سطر لما وجدت أفضل من هذا النص، فهنا وردي يكون مخاطَباً (بفتح  الطاء) و يكون مخاطِباً (بكسرها)، و خطابه هنا ملك لكل من استمع لوردي و استشعر ذائقته المبدعة، و المالك هنا يخاطب الوطن و يخاطب الحبيبة و يخاطب الحلم، فوردي خطاب مملوك للجميع و مفتوح على كل التأويلات، لأن وردي أحد الذين شكلوا الوجدان الجمعي، و هو أحد الذين يملكون سطوة آسرة و حضوراً دائماً في قلوب الجميع.
و ما كان لوردي أن يملك هذه السطوة و الحضور و السلطة المستقرة في قلوب عاشقيه لو أنه كان فناناً فقط يؤدي ما تمليه عليه الكلمات و الألحان، وردي هذا لم يخلده صوته القوي و الآسر و المنفعل، وردي إمتلك كل هذا و ذاك لأنه كان فناناً ملتزماً مثقفاً و واعياً و معلماً، كان فاعلاً في إنتاج وجدان و هوية قيد التشكل لشعب طالما إفتخر بإنتمائه إليه و لوطن غنى من أجل حريته، وردي كان حاضراً في كل الملمات التي عصفت بشعبنا و في كل أحزانه و ضد كل من خانوا إرادته، مناضلاً لأجل إسترداد حريته و صون كرامته، منحازاً لصفوف الضعفاء و المقهورين و المظلومين و البؤساء، كان موجوداً في قلب كل الأفراح و موثقاً للإنتصارات و ناشداً للعدالة الإجتماعية و القيم الجميلة، كان معبراً عن خيباتنا و آمالنا، عن هزائمنا و إنتصاراتنا عن حبنا و شوقنا و حنيننا، عن بهجتنا و تعاستنا  و بإختصار عن كل ما يدور في ضميرنا.

وردي يا سيداتي و سادتي لم يكن فناناً فقط و هو بما أداه فخر للأغاني و للموسيقى، ولكنه كان فاعلاً في مجمل الخطاب الإنساني و الضمير الكوني الذي ينشد الحرية و الكرامة و العدالة، كان ينادي بوطن بالفيهو نتساوي، نحلم نقرا نتساوي، مساكن كهرباء وموية، تحتنا الظلمة تتهاوي، وطن للسلم أجنحتو، ضد الحرب أسلحتو، عدد ما فوقو ما تحتو، كان وردي هو الذي يوقظ فينا ضمير الوطن و يجعلنا نرفع هاماتنا زهواً و إفتخاراً و هو يشعل الحماسة فينا: على أجنحة الفجر ترفرف فوق أعلامك، و كان يضعنا في نور ذات الفجر و هو ينشد أصبح الصبح و ها نحن على النور إلتقينا، وردي هو من علمنا أنه بإسم أكتوبر الشعب إنتصر، وردي الذي رفعنا على صوته راية إستقلالنا فلم يهن سوداننا يوماً علينا، و سرنا في الطريق بين شهيد قهر الظلم و مات، و شهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات، لقد تغنى للبلاء الإنجلى و حمد للشعب السلامة أن إنهد كتف المقصلة.
وردي الذي صاغ الوطن حبيبة و جعل الحبيبة مركزاً في قلب الوطن، ألم يوصي الطير المهاجر للوطن زمن الخريف أن يمر على حبيبة تطرز منديل حرير لحبيب بعيد، ألم يطلب من طائره المهاجر أن يقف أمامها بإحترام كما وقف هو مهذباً أمام الوطن، ألم يجلسنا وردي بحبور و نحن نخاطب الحبيبة حبيناك من قلوبنا و إخترناك يا حلو، و يجعلنا نتراقص طرباً بالحنينة السكرة و هي تقدل و تسكت الخشامة، ألم يجعلنا نطوي المسافات طي و نحن نناديها و نعزم كل زول برتاح على ضحكة عيون فيها، ألم يدهشنا و هو يخاطبها و لا الحزن القديم إنتي و لا لون الفرح بنتي، و هو يقول لها أشوف في شخصك أحلامي قسم بمحيك البدري.
وردي إمتداد لأجيال و أجيال و هو ذاك الفخور بأصوله و ثقافته الضاربة في جذور التاريخ، لم ينهزم أمام خطابات الإغتراب الوجداني و الهوية الزائفة، وردي إمتداد للذين غناهم في أغنياته و افتخر بأنه جزء منهم و جعلنا نفخر بذلك الإنتماء إلى تهراقا، بعانخي، الخليل، علي عبداللطيف، الماظ البطل، ود حبوبة و رجال كالأسود الضارية، فهل بعد هذا أغالي إن قلت لك يا وردي لقد كنت أنت الوطن الذي في حضرة جلالك يطيب الجلوس، فحق لك يا وردي و أنت بعزة جبالك ترك الشموس، و ما بين أغنياتك أفتش أكوس، أفتش طفولتي و ملامح صباي، بناتك عيونن صفاهن سماي، و هيبة رجالك بتسند قفاي، صحي بتملا عيني و تشرف غناي، يا وردي حتماً ح أقابلك في زمن ماشي و زمن جاي و زمن لسة.



الخميس، 16 فبراير 2012

شان الحاجات تبقى كويسة



شان الحاجات تبقى كويسة
غناء: طارق أبو عبيدة
كلمات: فيصل محمد صالح






العزلة،، صباح سنهوري


الجو حار، حار جداً وخانق. لا يوجد شيء سوى هذه الطاولة التي أنام عليها، هنالك أربعة أبواب لهذه الصالة واثنتا عشرة نافذة. هذه الصالة على شكل مستطيل، يوجد في كل ضلع باب، في الضلعان القصيران توجد نافذتان بحيث يكون الباب بينهما، وفي الضلعان الطويلان توجد نافذتان يسار الباب واثنتان عن يمينه.
البلدة خالية، تماماً، إلا من صوت أفكاري الشاردة مني حتّى الغضب. وحدي أنا في الصالة، وحدي أنا على الطاولة، وحدي أنا في البلدة، وحدي أنا من لا يشتهيه الموت. متمدِّدٌ على الطاولة الخشبية التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها ومن ثمّ الاندماج. النهوض يتطلب مني جهداً جباراً، فهو يشبه إلى حدٍّ كبير انسلاخ الثعبان عن جلده. أحاول جاهداً النهوض. (والآن، تُرَى أين وضعت الصندوق؟!. إنه بالخارج حتماً). خرجت من الباب الذي يقع في إحدى الضلعان الطويلان فالطاولة تقع في منتصف الصالة، لذا، فكون الخروج من أحد البابين اللذين في الضلعين القصيرين سيضاعف مقدار الجهد الذي أبذله.
في الخارج، كان الجوّ حاراً كما في الداخل تماماً، ها هو الصندوق قابعٌ بالقرب من الباب؛ لست أدري من أين أتى، كل الذي أعلمه أنه، منذ أن بدأت ألملم أطرافي، رأيت هذا الصندوق، وهو يحوي زجاجات من الخمر المعتّق. لم يعد هذا الخمر يجدى نفعاً، فلا شيء أصبح يؤثر على عقلي، كنت أعتقد في قرارة نفسي أنه ربما بعض الخمر تَفِي بالغرض، ربما أتذكر شيئاً، أي شيء. ربما أتذكر على الأقل من أنا؟، ما اسمي؟، من أين أتيت؟، ما هذا المكان؟، أين ذهب البقيِّة؟، ومن هم البقية؟.
الجو حار، حار جداً وخانق، وكأن هذه البقعة هي المكان الوحيد الذي وُظِّفَت الشمس لأجله، وفي هذا المكان وصل الهواء إلى سنّ التقاعد، وربما لَقِيَ حتفه. تناولت زجاجة خمرٍ وبدأت بالشُرْب، رميت الزجاجة جانباً. مازلت بكامل وعيي. خطرت ببالي فكرة، وهي أن أطوف بهذه البلدة، بدأت في السير على الطريق، ترى أين البشر؟. لكم أتمنى الآن أن يظهر أمامي كائنٌ من كان؛ إنساناً، حيواناً، سواء كان ذلك الحيوان مُستَأنَسَاً أو خَطِرَاً. لماذا أنا وحدي هنا؟.
البلدة هادئة، ساكنة، لا أسمع أيّ صوت سوى صوت دقات قلبي. دخلت إلى أحد المنازل، كان الباب غير موصد من الداخل ولذا كان من السهل عليَّ الدخول. المنزل مظلم قليلاً ولكن تسهل فيه الرؤية، ياله من أثاث جميل ومرتَّب. لمحت بعض الصور التذكارية على الحائط، يبدو أنها لأفراد هذه المنزل. ياله من صبي جميل، أهؤلاء والداه؟، يبدو ذلك. ترى أين هم الآن؟!. فجأة أحسست بقشعريرةٍ باردةٍ تسرى في كامل جسدي، عندها فقط قررت الخروج من هذا المنزل.
واصلت سيري في الطريق، المنازل على جانبي الطريق، تبدو هادئة تماماً. ما هذا الشيء هناك؟ إنها طاحونة هوائية، ياللسخرية!!، طاحونة هوائية؟!، يبدو أنهم بنوها قبل أن يتقاعد الهواء. إذن فقد كان الهواء مُوَظَّفاً هنا!. ترى هل يوجد أحد بداخلها؟. دلفت إلى الداخل، أرى عدداً من بيوت العنكبوت هنا، حتى بيوت العنكبوت تبدو مهجورة. ولكن أين العنكبوت؟! تَلَفَّتُّ حولي، يوجد العديد من جوالات الدقيق، وهذا الوعاء مليء بحبوب الغلال التي لم تُطحَن بعد، لا بد أن يوجد أحد هنا. أجل، فمن غير المعقول ألا يوجد بشر، واحد على الأقل، حسناً، عنكبوت واحد فقط، لا بأس يكفيني جرذ واحد، أرجوك، حسناً، سأنادي بأعلى صوتي علَّ بعضهم يستيقظ، لن أكون طماعاً يكفيني أن أقول (علّه) يستقيظ. حسنٌ سأنادي.. يإلهي؟ كيف أنادي؟ لماذا لا تخرج الكلمات من فمي؟!. لا بأس فلتخرج الحروف متقطعة، أوه لا، تُرَى بأيةِ لغةٍ أتحدث؟. أدرك تماماً أنني أجيد الكلام، فأنا أفكر دائماً بهذه اللغة، ولكني أتحدث بها إلى نفسي، من داخلي، وليس من فمي. لم أتحدث إلى أحد منذ فترة طويلة ولا أتحدث إلى نفسي بصوتٍ مسموع، هل هذا لأنني أخاف من أن أوصف بالجنون أم لأنني أخاف من أن يسمع أسراري أحد؟!. ليتهم يصفونني بالجنون، فقط يظهروا أمامي ويصفوني بالجنون، عندها سأبلغ قمة السعادة.
لو كنت تذكرت أن الناس تتجمهر، لتنصَّت إلى من يُحَدِّث نفسه ليتناقلوا حديثه فيما بينهم، لتحدثت بكل لغات الكون وبأعلى درجةٍ أملكها من الصوت، ربما كل هذه الأشياء تجذب البشر، ولكن لا جدوى من ذلك الآن، فقد فقدت أملي الأخير. فقدت صوتي للأبد. خسارة. مؤكد أن هذه الأشياء تجذب البشر كما يجذب العسل النمل. ماذا؟! هل ذكرت كلمة عسل؟!، أجل، أذكر أنني رأيت عسلاً في ذلك المنزل الذي دخلته، أجل؛ العسل، النمل، وجدتها، أجل وجدتها. خرجت من تلك الطاحونة الهوائية وجريت بسرعة إلى حيث المنزل، فتحت الباب وأسرعت إلى الداخل. أحاول التذكر: أين رأيته، أجل، هاهوذا.
أخذت العسل وخرجت به إلى الطريق، إنها مُحْكَمَةُ القفل، ولكنها لن تكون صعبة على إنسان قد أوشك على فقدان الأمل وظهر له الأمل فجأة من بعيد. بالطبع أنا الآن أقوى من جبل، ها هي العلبة مفتوحة بين يدي. تذوقته، إنه جيد لا بأس به، فلا زال يحتفظ بطعم العسل. أمسكت بالعلبة، بدأت بالسير على الطريق وأنا ممسكٌ بالعلبة والعسل يتدفقُ منها. أوشك العسل على النفاد. جيد، هذه الرقعة تكفي. انتهى العسل، لا بأس، فهذا يكفي. والآن سأنتظر النمل، أرجو ألا يطول الإنتظار. لا، لن يطول انتظاري فأنا أعلم جيداً أن تلك النملة النحيلة، والتي تمتلك حاسة الشم الأقوى في مملكتهم، ستشتمّ رائحة العسل، وستخبر جميع أفراد المملكة بذلك، وما هي إلاّ سويعات حتى أرى النّمل؛ عندها فقط سأبلغ قمَّة السعادة وأنا أستمتع برؤية ذلك الكائن الحيّ، الصغير، الجميل. أخيراً يمكنني أن أرى شيئاً تدبّ الحياة في أوصاله، سأجلس وأنتظر. لقد أوشكت الشمس على المغيب ولم تظهر تلك الكائنات. لا بأس، سأنتظر، لا يوجد ما يمكن أن أفعله غير الانتظار.

لا زلت أنتظر، سيأتي، أعلم جيّداً أن النمل لا يمكنه مقاومة العسل، لذا سأتظر.

لقد طال انتظاري؛ فها هي الشمس قد بدأت تُزاولُ عملَها اليوميّ. لن أنتظر مجدّداً، سأعود إلى الطاولة، لقد اشتقت إليها كثيراً، ليس من عادتي أن أقضي الليل بعيداً عنها، حتّى أنني أُحس، الآن، بتقرّحاتٍ على ظهري تُشبه، تماماً، تلك الجروح والتقرّحات التي تُصيبُ من بُتِرَت أيديهم أو سيقانهم عن بقيّة الجسد. لم أضلّ طريق عودتي إلى الصالة. أخيراً طاولتي. أحاول جاهداً احتضانها. أخذت أحتضنها من كلّ جهةٍ من جهاتها الأربع، أقبّلها، مارست نشاطي الوحيد: التمدّد عليها. آه، أخيراً، أحسُّ بنوعٍ من السكينة والطمأنينة، حتّى أنني لم أعد اشعر بتلك الجروح والتقرّحات.

متمدّدٌ أنا على الطاولة، أمارس موهبتي: أحلامي؛ يبدو أن انتظاري للكائنات الحيّة وتشوقي لرؤيتها قد أثَّر عليها. أحلم، وأنا أحدّق في السقف بشرود، دون انتباهٍ لتفاصيله، أحلم أنني كائن أخضر صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخلية. أشعر بأن عينان كبيرتان هلاميّتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن ألتفت، أغمضهما تارةً وأفتحهما أخرى بترتيب منتظم. ما ذاك الثقب؟، إنه على السقف!، يعني ذلك أن حلمي قد انتهى، أرجو أن لا يعاودني ثانيةً، لأنني، حينها، شعرت بشعور سخيف وغريب.

ترى، هل مرّت الحرب من هنا؟. إذا مرّت، ولقي الجميع حتفهم، لما لم ألقَ حتفي أيضاً؟. إن حدث ذلك أين الجثث؟. وإن مرّ وقت طويل على ذلك، أين بقايا عظامهم؟. سَرَت تلك القشعريرة الباردة في جسدي مرة أخرى، لا أخفي عليكم سراً أنني، عندما تشتدّ الحرارة بصورةٍ تُثير غضبي، كنت أجترّ مثل هذه الأسئلة الجالبة، طبعاً، لتلك القشعريرة الباردة التي تزيل معها قَدْرَاً جليلاً من الحرارة وتلطّف الجوّ. كنت أستمتع بذلك وأعتبر نفسي ذكيّاً، فقد كانت الحيلة الوحيدة التي أُجيدها. ولكن، بعد تكرارها، أظنني قد أَتْلَفتُ جزءً من خلايا المخ، خاصّتي، وأفلتت تلك الحيلة من لجامها، ولم أعد أستطيع التحكّم بها، فأصبحت تأتي عندما يتملّكني ذلك الشعور الغريب بالغرابة.

مجدداً، وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ على الطاولة التي أوشكت خلايا نخاعي على البناء عليها، ومن ثم الاندماج.

وصلت في قرارة نفسي إلى: بما أنه لا يوجد من يؤانسني في هذه البلدة، إذاً لا بدّ من إيجاد شريك بكافّة الطُرق والوسائل، فوصلت إلى أن أنقسم انقساماً خياليَّاً إلى كائنين؛ أحدهما (أنا) والآخر (هو). إنه يشبه صورتي المنعكسة على زجاجات الخمر المعتّق. حسنٌ أيها الكائن الوسيم، ماذا سأدعوك؟، ليست لديّ أدنى فكرة عن الأسماء الآن، ولكن ما رأيك بأن أكون (أنا) وتكون أنتَ (هُوَ)؟. ألمح تعابير الغضب على قسمات وجهه.
 -
لمَ لا أكون (أنا) وأنت (هو)؟.
-
 لأنني الأصل يا حبيبي.
-
 بل أنا الأصل، وبدوني لن تستطيع العيش هنا.
-
 حسنٌ، لا تغضب أيها الكائن، أنا أكثر منك تجربةً، ومعرفةً؛ أعرف جميع معاني الكآبة، الخوف، الرعب والغرابة، لذا لا تهمني توافه الأمور. لا بأس، سأتنازل لك، سأكون (هو)، وستكون (أنا). هل أنت سعيد الآن؟.
-
 لم نتفق على كل شيءٍ بعد.
-
 ماذا تقصد؟.
-
 أريد، أولاً، تلك الزجاجات التي تحوي الخمر المعتّق.
-
 ماذا؟!.
-
 وإلا لن تجدني ثانيةً، وستعاني من الوحدة.
-
 أوف، هل هذا ابتزاز أم ماذا؟. لا بأس. لك ذلك.
-
 وأخيراً يا عزيزي، إبحث لك عن مكانٍ آخر لتنام فيه غير الطاولة، لأنني سأنام عليها من الآن فصاعداً.
-
 إلا هذا!!. لن تناله ولا حتى بأحلامك النهاريّة، لن أتخلى عن طاولتي، لن أتخلى عن جزءٍ منّي، ألا تفهم هذا؟.
-
 ولكنك تخلّيت بالفعل عندما أوجدتني، لذا لا أظنّ أنه من الصعب عليك التخلّي عن الطاولة. ثم أنك تتخلّى عنها لجزءٍ منك!.
-
 لاااااااا، أنت لست جزءً مني، الطاولة هي جزء مني؛ أمي وأبي وأهلي والبقيّة. الطاولة أنا. أنت لست سوى وهم، لست سوى صورتي المنعكسة من على زجاجات الخمر المعتّق.

لقد فاض بي حقّاً، رميته بكلّ زجاجات الخمر على وجهه وأنا أصرخ: (إذهب أيها الكائن الهلامي الغريب، إذهب إلى الجحيم. هيا، هيا). اختفى ذلك الكائن الذي يُشبه صورتي، نظرت إلى الطاولة بحنان، أسرعت، استلقيت عليها. (لا تخافي، لن يأخذني منك شيء، حتى الموت؛ أنت تعلمين أنني لا أنزلق في أمعائه، وتعجز انزيماته عن هضمي. غريبةٌ أنت مثلي في هذا المكان، وأنا أحبّك.
لأول مرة أغطّ في نومٍ عميق، حلمت بأنني ذلك الشاب الذي في الأسطورة. كان يتمدّد قرب البحر ويتأمل صورته المنعكسة على سطحه. أما أنا، فقد كنت مدّداً على الطاولة، بالقرب من البحر، أتأمل صورتنا _أنا والطاولة_ المنعكسة على سطحه. الشاب عاقبته الآلهة بأن حوَّلته إلى زهرة في ذات مكانه، نحن حوّلتنا إلى زهرتين جميلتين.
صحوت من النوم، ظللت أتطلع إلى السقف بمزاج جيّد، رويداً رويداً بدأ ذلك المزاج الرائق بالاضمحلال، فما زلت وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ أنا على الطاولة الخشبة التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها، ومن ثم الاندماج.
أحاول الرجوع إلى ذاك المزاج الرائق الذي يحمل نكهة الـ.. لست أدري!، أحاول، يبدو أنني فقدته. حسنٌ لا زلت أدّخر بعضاً من أحلامي. لا. لا أريد أن أكون ذلك الكائن. يبدو أنه ما من خيارٍ آخر. حسن لا بأس. أنا الآن كائن أخضر، صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخليّة. لديّ عينان كبيرتان هلاميتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن التفت. أغمضهما تارة، وأفتحهما أخرى، بترتيب منتظم.

ــــــــــ
نُشرت هذه القصة بالملف الثقافي لصحيفة الأحداث (تخوم) الثلاثاء 7 أبريل 2009م 
فازت هذه القصة بجائزة الطيب صالح للشباب للقصة القصيرة في دورتها الأولي 2008- 2009م، و قد جاء في قرار لجنة التحكيم ما يلي:
امتازت هذه القصة بقدرتها الفائقة على الإمساك بتقنيات القصة الحديثة، واستبطانها العميق لعزلة فرد يخب في متاهة عالم خال إلا منه، حيث هو وحده من لا يشتهيه الموت ، مستثمرة تيار الوعي، وتوظيف الأنا المتشظية دون أن تشتت ذهن القارئ الذي يتابع القصة بتحفيز عال

الأربعاء، 8 فبراير 2012

حبيبتي عابرة


عبرت بذاكرتي ذات حنين و هيام، فجال في خاطري أن الحبيبات كلهن عابرات: فحبيبة تعبر بك، و حبيبة تعبر إليك و حبيبة تعبر منك. فالحبيبات: عبور و عَبرة و عِبارة.
ليس أجمل من أنثى تطلق رغبتك في التعبير، و تشعل قدرتك على الكتابة بعد أن خلتها قد إنزوت و انطفأت بفعل الخمول القاسي الذي لازمك زمناً باهظاً، تتملكك رغبة حارقة في البوح و إطلاق العنان للحروف التي صارت مقيدة إلى أصابعك، لتكسر ذلك النمط الخجول و تغير القواعد الروتينية لحياتك! تغيرها جميعاً بفعل إمرأة!  نعم إمرأة! فكل أنثى لها القدرة على فعل شيئ سحري في حياة رجل ما، فعل لا يستطيع ذاك الرجل مقاومته و لا عجب، فبعض النساء لديهن قدرة مدهشة، لست أبالغ إن أسميتها كرامة كما يعبر الصوفيون و هم يتأملون و يسلمون بذلك التأثير غير المرئي للأولياء و الصالحين و قدرتهم على فعل شيئ خارق لطبيعة الأشياء، لا تعقله قوانين الفيزياء و لا تفسره دروس المنطق!
العلاقة بالأنثى (و هي هنا أنثاك على وجه الخصوص)  علاقة نفاذة تخترق مكاناً ما في دواخلك لم تكن تدري بأنه موجود قبل أن تنفذ تلك الأنثى بقوتها الفاتكة في حياتك، فلا تستطيع لها صداً أو منها فكاكاً.
و للأنثى سحر غريب حين تنطقك، حين يمر إسمك الذي هو هو (إسمك العادي) على حبالها الصوتية، ثم ينطلق حراً في الفضاء ماراً عبر شفتيها الهادئتين، حين تسمع صوتها يحتوي حروف إسمك فهو رنين و نغم و سحر، هي لا تنطق بإسمك و لا تهتف به، بل هي تنطلقك أنت فتستحيل أنت نفسك إلى عبارة موسيقية مسموعة بل و محسوسة، يراها الناس و هي تنساب بينهم، تتراقص كموجة شامخة في مسار النيل المنساب متحدياً تضاريس الجغرافيا و التاريخ كما أنثاك، هي تنطقك فتستحيل كلك إلى عبارة يحتويك صوتها و تهتز عبر مخارج حروفها، و هنا تكون أنت عبارة عن أثير شفاف يتكون من فوتونات الضوء، فتغشى عينيك نبرات صوتها فتغلقهما مخافة أن تسلبك آخر ما تبقى من وجودك المادي و تحيلك لطيف بصري يسبح في فضائها.
و على عكس الشائع تماماً أجمل أنثى هي تلك التي تختصر إليك الطريق فتختصر بك المسافة، فلا تدري هل أنت تمشي بين الناس كما تعودت منذ مولدك، أم أنت تحلق من فرط الرقة التي تنتابك، المسافة إلى الأنثى لا تقاس بالأمتار و لا الزمن الذي تقضيه حتى تراها، بل يحسب بالكثافة التي تتشبع بها كل ما اقتربت إليك دهشة مشتعلة منها لتصفع اللزوجة المسيطرة على وجه الزمن الممل، و هي (أي الدهشة) تتناسب طردياً مع المسافة الكائنة بين نطقك بها و دقة قلبها التي ترتد إليك، لتصافح عينيها المرتبكتين نبضك الواجف الذي يتحاشى النظر تجاهها خوف أن تلقي عينيك ما يبهرهما فتنهار في رحابها، الأنثى كائن فريد يرقى لدرجة الأسطورة، بل كانت إلهاً يعبد من دون كل الآلهة الذكور، تتشكل في داخلك فتتناقض داخلك المشاعر المحدودة في حيز هو أنت.
الحبيبة العابرة تعبر بك من ضفة العادي و المحايث إلى فضاء الأسطوري و المفارق و هي الحبيبة التي إذا نظرت إليها رمقتك ببسمتها فتصير أغنية عذبة تنساب سلسة على شفاه الأطفال