منذ أن طرق أذني
الخبر الذي شق على الناعي حمله، و صعب على المستمع إستيعابه، منذ تلك اللحظة التي
أعلنت غياب الهرم الأكبر، و بدون أي ترتيب داخلي و بلا شعور مني وجدت نفسي أردد:
(في حضرة جلالك يطيب الجلوس،،، مهذب أمامك يكون الكلام)، لازمتني هذه العبارة بشكل
هستيري و تعالى هتافها في داخلي منذ لحظة النعي و حتى وجدتني و أنا أقف بوجوم و
عيناي دامعتين أمام الجسد المهيب في مثواه الأخير، كان الحزن يشغلني عن الحشد
المندفع ليلقي النظرة الأخيرة على الفرعون الراقد في سكون و صمت و هو الذي طالما
ملأ الدنيا طرباً و إبداعاً و حباً و وطنية، و ما كان يسرقني من تلك اللحظة الرهيبة
لكي أفيق من ترديد هتافي الداخلي: (في حضرة جلالك... مهذب أمامك) غير أن يتعالى
هتاف من هنا أو هناك يحي وردي و يهتف بإحدى أغانيه الخالدة في الوجدان، أو يدفعني
أحد المتدافعين الذين يحاولون الوصول إلى الصفوف الأمامية ليودع فناناً نُثِرت
عليه الألقاب التي تمجده و تعظمه، و برغم ذلك خلد إسمه مجرداً هكذا (وردي)، برغم
بريق تلك الألقاب و قوتها التي تحكي قصة حياته و مواقفه و تصور وقوفه منحازاً إلى
شعباً ألهبته ثوريته فألهب وجدانه و تغنى لحريته و إستقلاله فوق أجنحة الفجر.
و أنا أستحضر
بهدوء الآن ذلك النداء الداخلي العجيب ما زلت في حيرة من أمري، من كنت أخاطب في
تلك اللحظة المنفعلة بالطير المهاجر و الحزن القديم؟ هل كنت أستحضر هيبة وردي و كاريزميته
المليئة بالكبرياء و الصلف، و هو برغم كل هذا التعالي الذي اشتهر به يذوب تواضعاً
و خشوعاً و هو يجلس على الأرض مردداً هذه العبارة الآسرة، أم أنني كنت أخاطب وردي
نفسه و أنا أنحني أمام ذلك التاريخ الناصع و أنا أختصره في هذه المفردة التي
أسرتني بشكل كامل: مهذب أمامك. و لكن ما أجزم به تماماً أنه لو صح لي إختصار وردي
و التعبير عنه في ما لا يزيد عن سطر لما وجدت أفضل من هذا النص، فهنا وردي يكون
مخاطَباً (بفتح الطاء) و يكون مخاطِباً (بكسرها)، و خطابه هنا
ملك لكل من استمع لوردي و استشعر ذائقته المبدعة، و المالك هنا يخاطب الوطن و
يخاطب الحبيبة و يخاطب الحلم، فوردي خطاب مملوك للجميع و مفتوح على كل التأويلات،
لأن وردي أحد الذين شكلوا الوجدان الجمعي، و هو أحد الذين يملكون سطوة آسرة و
حضوراً دائماً في قلوب الجميع.
و ما كان لوردي
أن يملك هذه السطوة و الحضور و السلطة المستقرة في قلوب عاشقيه لو أنه كان فناناً
فقط يؤدي ما تمليه عليه الكلمات و الألحان، وردي هذا لم يخلده صوته القوي و الآسر
و المنفعل، وردي إمتلك كل هذا و ذاك لأنه كان فناناً ملتزماً مثقفاً و واعياً و
معلماً، كان فاعلاً في إنتاج وجدان و هوية قيد التشكل لشعب طالما إفتخر بإنتمائه
إليه و لوطن غنى من أجل حريته، وردي كان حاضراً في كل الملمات التي عصفت بشعبنا و
في كل أحزانه و ضد كل من خانوا إرادته، مناضلاً لأجل إسترداد حريته و صون كرامته،
منحازاً لصفوف الضعفاء و المقهورين و المظلومين و البؤساء، كان موجوداً في قلب كل
الأفراح و موثقاً للإنتصارات و ناشداً للعدالة الإجتماعية و القيم الجميلة، كان
معبراً عن خيباتنا و آمالنا، عن هزائمنا و إنتصاراتنا عن حبنا و شوقنا و حنيننا،
عن بهجتنا و تعاستنا و بإختصار عن كل ما
يدور في ضميرنا.
وردي يا سيداتي
و سادتي لم يكن فناناً فقط و هو بما أداه فخر للأغاني و للموسيقى، ولكنه كان
فاعلاً في مجمل الخطاب الإنساني و الضمير الكوني الذي ينشد الحرية و الكرامة و
العدالة، كان ينادي بوطن بالفيهو نتساوي، نحلم نقرا نتساوي، مساكن كهرباء وموية، تحتنا
الظلمة تتهاوي، وطن للسلم أجنحتو، ضد الحرب أسلحتو، عدد ما فوقو ما تحتو، كان وردي
هو الذي يوقظ فينا ضمير الوطن و يجعلنا نرفع هاماتنا زهواً و إفتخاراً و هو يشعل
الحماسة فينا: على أجنحة الفجر ترفرف فوق أعلامك، و كان يضعنا في نور ذات الفجر و
هو ينشد أصبح الصبح و ها نحن على النور إلتقينا، وردي هو من علمنا أنه بإسم أكتوبر
الشعب إنتصر، وردي الذي رفعنا على صوته راية إستقلالنا فلم يهن سوداننا يوماً
علينا، و سرنا في الطريق بين شهيد قهر الظلم و مات، و شهيد لم يزل يبذر في الأرض
بذور الذكريات، لقد تغنى للبلاء الإنجلى و حمد للشعب السلامة أن إنهد كتف المقصلة.
وردي الذي صاغ
الوطن حبيبة و جعل الحبيبة مركزاً في قلب الوطن، ألم يوصي الطير المهاجر للوطن زمن
الخريف أن يمر على حبيبة تطرز منديل حرير لحبيب بعيد، ألم يطلب من طائره المهاجر
أن يقف أمامها بإحترام كما وقف هو مهذباً أمام الوطن، ألم يجلسنا وردي بحبور و نحن
نخاطب الحبيبة حبيناك من قلوبنا و إخترناك يا حلو، و يجعلنا نتراقص طرباً بالحنينة
السكرة و هي تقدل و تسكت الخشامة، ألم يجعلنا نطوي المسافات طي و نحن نناديها و
نعزم كل زول برتاح على ضحكة عيون فيها، ألم يدهشنا و هو يخاطبها و لا الحزن القديم
إنتي و لا لون الفرح بنتي، و هو يقول لها أشوف في شخصك أحلامي قسم بمحيك البدري.
وردي إمتداد
لأجيال و أجيال و هو ذاك الفخور بأصوله و ثقافته الضاربة في جذور التاريخ، لم
ينهزم أمام خطابات الإغتراب الوجداني و الهوية الزائفة، وردي إمتداد للذين غناهم
في أغنياته و افتخر بأنه جزء منهم و جعلنا نفخر بذلك الإنتماء إلى تهراقا، بعانخي،
الخليل، علي عبداللطيف، الماظ البطل، ود حبوبة و رجال كالأسود الضارية، فهل بعد
هذا أغالي إن قلت لك يا وردي لقد كنت أنت الوطن الذي في حضرة جلالك يطيب الجلوس، فحق
لك يا وردي و أنت بعزة جبالك ترك الشموس، و ما بين أغنياتك أفتش أكوس، أفتش طفولتي
و ملامح صباي، بناتك عيونن صفاهن سماي، و هيبة رجالك بتسند قفاي، صحي بتملا عيني و
تشرف غناي، يا وردي حتماً ح أقابلك في زمن ماشي و زمن جاي و زمن لسة.