الاثنين، 25 يوليو 2011

الفكر الشمولي يمركز فلسفة القوة ونقد الحداثة يفتتها ويفتحها على التعددية، علي ديوب


يمثل الفكر الشمولي وطأة على الآخر، من طرف، وعلى الذات،من طرف ثان- إذ يشكل تعذيبا خفيا على هذه الأخيرة (الذات) حين تتحمل،مختارة،أعباء النيابة عن الآخر، و مسؤولية الاضطلاع بكل شيء (الفلسفة، العلم، التاريخ، الدين، الجمال، و حتى العلوم الدقيقة) اضطلاعاً مهووسا بالوضوح و التنظيم و الحصر و الضبط و الاختزال و التعيين، و متطيرا من المجهول و المخبوء و الخفي و المختلف (الجديد، بعامة). الأمر الذي يبعد هذا الفكر/ الوهم عن الاتساق الداخلي، مع الذات، و يقربه أكثر من ميدان العنف و القوة و الاستبداد، خارج فضاء التسامح، و الاعتراف بالآخر، و تقبّل نسبية المعرفة.
سمة أخرى تطبع الفكر الشمولي، و تتجلى بجعله المثقف- مثقفه- مشروعاً سلطوياً، مكتفياً بذاته. بل وفائضاً عنها، يحتاجه الجميع، ولا يحتاج أحداً. الجميع في نقص، وهو في كمال؛ وعلى هذا ينبغي على الآخرين أن يذعنوا له- بالقياس على إذعانه هو لسلطته الشمولية- بأن يوافقوا على أفكاره، و يتطابقوا مع تصوراته. أما بالنسبة إلى العالم فعليه أن يتشكل على مقاس فكرته المسبقة عنه؛ وإلا فالعالم في ظلمة، و الإنسان في جاهلية.. و يتحمل، بذلك، صاحب الفكر الشمولي مسؤولية مزدوجة، تتمثل في تحوله إلى مستبد مسكين، يثير الشفقة، حين يغدو هو نفسه الخالق و صاحب الرأي الأوحد في الخلق. أي أنه يجمع عناصر الخطاب كافة: المرسل، و المرسل إليه، و الرسول، و.. الرسالة ضمناً! مذكراً بقول ابن الفارض:
إلي رسولا كنت مني مرسلا
وذاتي بآياتي علي استدلت
و الفارق بين انعكاس هذه الصورة المكتملة/ الاستغنائية/ الاكتفائية، في الفكر الصوفي، الذي حاول الانتصار بها على النقص و الغربة؛ باستحضار الكمال المطلق- من غير أن يفرضها فرضاً، أو يعممها بالقوة- و بين انعكاسها في الفكر الشمولي، الذي توهم الانتصار على النقص و الغربة، (حين لعب دور مربي ومنظم ومنسق الحقائق - جلادها)؛ الفارق إذن، يتحدد بدرجة و حجم الاعتداء الذي يوقعه هذا الأخير على حركة حياة و تطور البشر، قياساً إلى مثيله عند الأول. ولا يغير في النتيجة نوع الدوافع أو النوايا أو الأسباب التي قد يستند إليها الفكر المستبد، والتي قد تأخذ غالباً طابع الهداية، التي تصطدم ب"جهل البشر لمصلحتهم!"؛ وعليه فهي (الدوافع و النوايا) تنزع- عسفاً و تجبراً- لهدفي التغيير و التخليص: تغيير العالم، و تخليص البشر. و مع اكتشاف استحالة تغيير العالم بالرغبات، ومع العنت الذي يلقاه ذلك النزوع من عناد البشر، يأخذ الهدفان (التغيير و التخليص) سبيلهما الحتمي نحو العنف.
المعرفة الكلية سلطة كلية- و البقاء للأقوى
مما سبق يمكن أن نقرأ حاجة المثقف الشمولي إلى سلطة قوية، تستوحي أفكاره، و تطبقها- استيحاءً تاماً، و تطبيقاً حرفياً- فتعوضه عن إحساسه بالعجز المحكم- وهي حاجة تأخذ شكل و محتوى الضرورة. لكن، و نظرا للتوتر الشديد الذي يحكم علاقة الطرفين (المثقف والسلطة)؛ وهو توتر تقع فيه مصلحة الأقوى في المقدمة، فإن قدراً، غير يسير، من التحوير والانتقائية سيطال الفكرة، حال تطبيقها. و لأن المقال هنا يقتضي التركيز، فإن مقتضى القول يلزمنا غض الطرف عن عدد كبير- من عدد لا محدود- من شبكة المؤثرات و العلاقات و الخيارات التي تحكم هذه العلاقة- كما هو حال أية علاقة- لنقف على اللحظة الأخيرة التي تضع طرفها الأول( المثقف الشمولي) أمام خيارين: عقد نوع من القران مع القوة، أو قطع كل الصلات معها؛ و لأن الخيار الأخير يحكم عليه بالتهميش، فإنه يختار الأول. و الاعتبارات كثيرة: الزواج شر لا بد منه.. أو الاستجابة ل"النعم التاريخية"- بتعبير صادق جلال العظم- أو الخيانة الحتمية للفكرة، حال تطبيقها، خير من الاحتفاظ بها (دفنها) في عتم الرأس،أو طيّ غبار الكتب.. أو..!
و ما يشبه النتيجة هنا أنه تتشكل أمامنا علاقة من حدين: تابع ومتبوع، يقتصر دور التابع فيها، على الاستجابة لإملاءات المتبوع. فيحذف من العلاقة عنصر التناقض، ويزول الاختلاف، و تخمد شعلة التوتر؛ لنقف على علاقة أحادية الاتجاه. تتجسد في حالة سكونية، تجد تعبيرها في حركة ذات اتجاه واحد: إملاء- استجابة.
من جانب آخر، و فيما يخص العلاقة التي تربط المثقف الشمولي بالفكر، من الداخل، فإنها تمثل  إعادة إنتاج علاقة السلطة به: تبقي، أو تستحدث ما يؤكدها، يثبتها، يحميها، و يحقق لها مطلق السيطرة والديمومة. وكما أن السلطة الشمولية لا تجرؤ على التعايش مع قوانين لا تصرح لها بالتحكم الكلي، و بالتالي لا تجرؤ على الاعتراف بها- كقوانين في صالح الفئات الأخرى- كذلك تبدو على غرارها علاقة المثقف بالمفاهيم التي لا تتطابق مع أفكاره، ومع منطلقاته/ مطلقاته الأيديولوجية، إذ يبذل جل طاقاته في  الحذف و التحديد و التحريم: يقصي و يثبت، يغيب و يرسخ، يسكت و يعلن.. لا سؤال يمكنه أن يحرج نفسه بطرحه، إلا إذا كانت إجابته جاهزة لديه، سلفاً. ولا بحث يجريه إلا إذا كانت نتائجه حاضرة، عنده، مسبقاً. مساره دائرة، بدايتها معلومة وكذا نهايتها: فكرة- واقع- فكرة. و: نقطة، انتهى؛ أما المجهول فضلال بضلال، لابد من محاربته باليد، أو باللسان، أو بالقلب..أو بالتجاهل، وهذا أشد الخوف!
و لإن كنا وقفنا كلامنا على المثقف الشمولي، بالتخصيص، فإن هناك من يذهب أبعد معتبراً أن "الاعتقادات والمسلمات الأيديولوجية تغدو عند الإنسان ( على وجه التعميم) معياراً وحيداً يحكم على أساسه كل شيء ويسقط مقولاتها قسرا على الواقع".(1).
الخصوصية ضد الخصوصية
لا يزال فكر النخبة متماهياً بفكرة السلطة. و الخطاب التحديثي العربي تحركه، حتى الآن، فكرة المستبد العادل. وعلى هذا، مثلاً، تبدو العلمانية بضاعة غربية، لا تصلح لنا- إذ "لا كنيسة تحكم عندنا  ولا أكليروس"، (2)- و توصم العقلانية، كذلك، بأنها بدعة.. و يسود الزعم بأن الديمقراطية "منافسة للخالق (وهو هنا السلطة الشمولية) في سوس العباد". مع أنها عملية يحدد مجالها في علاقات البشر البينية. و تغدو الحرية معصية للخالق/ الحاكم- سواء أكان ميتافيزيقياً، مفارقاً، أو كان محايثاً، ملاصقاً. و..على كل حال نحن في حل من هذه الأباطيل كلها؛ إذ الحق بيننا يحل، و فينا يسكن. فما حاجتنا إلى صورة مزيفة تغوينا و تضللنا؟!
على أن علاقة الداخل بالخارج تقوم على جدلية، يكون القول الفصل فيها لدور الداخل، و طبيعة استجابته- كما يرى د.طيب تيزيني(3). ولو صحّ أن الانطواء على الذات يحمي الخصوصية، ويرسخ الموروث، ويصون الأصالة.. لما كنا اليوم أمام ثقافات أوربية متعددة، ومتنوعة. تأسست على الحرية،   و زادها التفاعل و التواصل و التثاقف خصوبة.
ولكن هذه الأفكار المحفوظة، التي تنطلق، من مزاعم الخصوصية، و تتمسك بها، تجد كبير تأييد و تشجيع من لدن الثقافة المركزية في الغرب (لا الثقافة الغربية على وجه الإطلاق). ف "الأصالة و الخصوصية، و أخواتهما، تدخل في عداد العبارات المهذبة، التي يتم خلعها علينا، كي تؤكد بضع صفات، يختزلنا الغرب بها - جهلاً أو وعياً- تحمل معاني عدم أهليتنا لتمثّل و تجسيد قيم الحداثة، التي يخص نفسه بها، على نحو ينسف مصداقيتها، كقيم علمية و علمانية، تمثل عصب التطور. إن الثقافة المهيمنة، اليوم، في الغرب تدأب لترسيخ مثل هذه الأضاليل في العقول، لتأبيد استئثارها بقيم العصر، لحفظ الفارق الحضاري بينها وبين باقي الشعوب التي لا ترقى، ويجب ألا ترقى (؟) إلى مستوى قيم مثل حقوق الإنسان، و الديمقراطية وما يرافقها من ممارسات. أو يتخلق عنها من قيم اكثر جدوى. فإذا لزم الأمر شيئاً من التواضع الكاذب، و الخداع، زيّن الغرب لنا بضاعتنا على أنها شيء أفضل بكثير من قيم العصر، و أن السائد في حياتنا من الأصالات أرقى بما لا يقاس.(4).
الخصوصية التي تعزف لحنها ثقافة الحداثة، بسلطتها الراهنة، هي خصوصية تستخدم لتأبيد حال الضعفاء. و ذلك من خلال تزيين هذا الحال- بعجره وبجره- في عيون أصحابه؛ و ليس الاعتراف بمناطق الجمال والتميز والمغايرة فيه.
ولقد بررت هذه المعزوفة المكشوفة، لخطاب الحداثة، جرائم عديدة أطلقت عليها تسميات زاهية مضللة- من مثل "تعميم الديمقراطية"، "تعليم الديمقراطية"، "إخماد الحرائق"، "الدفاع عن العالم الحر"، "الدفاع عن حقوق الانسان"..؛ لكن أي إنسان؟؛ إنه حصراً ذلك المخلوق الحداثي بالفطرة!
و يتناغم مع هذه المعزوفة من يحق وصفهم ب "مرضى الخصوصية" من مثقفي الشعوب المتخلفة؛ إعفاءً للنفس من المشاركة الفاعلة في نشاطات الفكر الانساني، والمساهمة في نتاجات الحضارة البشرية القائمة. و ذلك بذرائع الخوف على الذات من الذوبان، وضرورة التحصن من الغزو الثقافي. كما لو أن الاحتماء بين جدران المنازل كفيل بحماية الذات من تأثير الثقافات الأخرى. وقد أصبحت الحضارة السائدة هي حضارة الجميع. فلأول مرة، في التاريخ، يتم اختراق الحصون، و إلغاء المسافات، و تجاوز الزمن التقليدي، بصورة تجعل من الحياد نوعاً من الموت؛ و من الوجود الإنساني ضرباً من السجن، خارج عملية التشارك و التفاعل المتبادل: فإما منتج ومستهلك معاً، و إما مستهلك، فقط، هالك في المعنى الدقيق للكلمة.
يكاد الخوف على الخصوصية أن يكون خصوصية الضعيف، الذي يكشف عن خواء في القيمة، بالقدر الذي يلح فيه بالاعلان عن خصوصيته؛ لكأن الخوف على الخصوصية هو خصوصية من لا يمتلك خصوصية ذات أهمية!
الى أولئك المثقفين الذين يحجمون عن المشاركة في الفكر الانساني ما بعد الحداثي، أو "النقد حداثي" اذا شئنا؛ وحجتهم المعلنة هي خصوصية شعوبهم، التي لم تدخل بعد في عتبة الحداثة، يوجه علي حرب نقده بأن موقفهم هذا هو سبب، أو واحد من أسباب، هذه النتيجة/ الحالة ( = عدم الدخول في عتبة الحداثة). أما الذي عني منهم بنقد الحداثة فقد كشف عن تناقض في عمقها، عبر فضح ممارساتها، وبنائها المعرفي. فتجاوز من لا يزال يعلق عليها كل أمل، و يؤمن بها دواء لكل داء، و وصفة سحرية لكل معضلة.
ثقافة البحث عن خصم
   ولعل قراءة ل "نهاية التاريخ" التي بشر بها فوكوياما ، في كتابه الموسوم بهذه العبارة/ البشارة، تفك العقدة الأيديولوجية التي تشكل منطلقها وسداها. وتفكك الوهم الذي تنطوي عليه. لتكشف أنها تصلح مقدمة لشقيقها وندّها "صراع الحضارات" الكتاب الذي وضعه هنتنغتون، في الفترة نفسها، و نال كلاهما عظيم شهرة.
ففي حين يعلن الأول وصول حركة تطور البشر إلى النموذج الأرقى، بحيث لم يعد هناك حاجة للبحث عن حلول لأزمات النظام الرأسمالي من خارجه، ينبه الثاني إلى الخطر الجديد المسلط على، و المحدق بهذه الحضارة الأرقى. و المحدد بالخطرين الإسلامي والكونفشيوسي!
ولكن هل يعني هذا، في العمق، اعترافاً من هنتنغتون بأن أحد هذين الخطرين،أو كليهما، يمثل تهديداً جدياً لحضارته الأخطبوطية؛ أم انه- على الأرجح- يهدف إلى إسباغ صفات معينة على بنيتي الثقافتين الشرقيتين هاتين.. صفات ثابتة، ناجمة عن "خصوصية" تتحدد بتعذر حلول نظم التقدم وأنساق الفكر المتحرر فيهما، باعتبارهما ثقافتان معاديتان للتحضر بطبيعتهما؟ وهذا نوع من البحث عن خصم، يرمي إلى اعتبار هذا الشعب أو ذاك (بحسب الحاجة) عقبة، أو العقبة الأخيرة، في طريق هيمنة واستتباب عولمة ( ليبرالية أميركية) تبنت تحرير العالم..؛ على 
أن تحرير العالم لا يكون بغير إتاحة المجال أمام كافة الشعوب للاستفادة من ثمرات الفكر الإنساني. الأمر الذي لا يجب، ولا يمكن، أن يظل، ولا أن يكون، من نصيب شعب واحد..؛ ومع ذلك فإن أطروحة هنتنغتون لا تأخذ قوتها من داخلها، بقدر ما نسهم نحن بتسويقها، عبر الفكر المنكفىء على خوفه، أو ذاك المنعم بأوهام القبور، وما بعد القبور( مقابلا للحداثة، وما بعد الحداثة!!)، الذي يؤكد خصوصياتنا على  تلك الصورة المعممة..؛ حتى أن القاريء قد يصاب ب"عارض الحذر"جراء تعاظم التحذيرات من خطر تطبيق المناهج والحلول التي طبقها الغير (الآخر) في حيز ما، وفي فترة تاريخية ما، دون الإشارة، بالمقابل، إلى أشكال الإفادة التي تتم اليوم، أو تم تحصيلها سابقا، من تجارب البشر في تصريف هذه المفاهيم، و استثمارها.
إنه مرض الانطواء على عنصرية متمركزة على ذاتها، متنابذة مع الغير. و هو مرض لا يختص به عرق دون سواه، أو ينحصر في عصر من العصور. لكأن الفارق بين عدوانية فرد القبيلة البدائية، تجاه أفراد القبائل الأخرى( و التي كانت تجد مبررها في اختلاف اللغة، أو الزي- كما يذكر شتراوس في كتابه العرق و التاريخ)، و بين عدوانية مواطن الدولة الحديثة، تجاه أبناء الشعوب الأخرى، اليوم( و التي تستند إلى مبررات جديدة- مثل الاختلاف الثقافي)، هو فارق في الدرجة، و ليس في الكيف.
ثقافة الظل تخلخل سلطة الحداثة
لا خير يرتجى، إذن، من التعصب في أمر أو شأن أو نمط عيش أو مذهب تفكير. و لعل أفضل المناهج التي ابتكرتها عبقرية الإنسان، هي تلك المنفتحة على سواها؛ و قد تكون تلك القراءات التي تنزع من الانحباس في أي المناهج الجاهزة- بما فيها تلك التي ابتكرتها هي- أكثر غنى. فالعلاقة الجدلية بين الفكر و المنهج، هي علاقة حركة و سكون. فمن حيث يسعى المنهج إلى وضع القاعدة/ القانون، تنزع الحركة إلى هدم هذه القاعدة، وخرق هذا القانون. ولهذا فإن  التعامل مع الحياة، بطرق القولبة المسبقة والأفكار الجاهزة، يولد نتائج غير مرجوة دائما. بل نتائج أكثر مأساوية كما يذهب علي حرب، في القول بأن: "التعامل مع المعنى بصورة ماهوية و مفارقة، أو مع الحقيقة بصورة أحادية و تطابقية يفضي، على الأرض، إلى الفشل والإحباط، أو يترجم إلى عنف وإرهاب".(5).
و لأن الرغبة في الاعتراف هي محور و محرك الصراع في تاريخ البشر- بحسب هيغل. و لما كان الاعتراف يتحصل، سابقاً، بالقوة المجردة، و هو اليوم يتحصل عن طريق المعرفة؛ و ذلك مع  تحول مفهوم السلطة من القوى المجردة (التي كان يقف الجيش على رأسها) إلى القوى الرمزية، التي تحتل المعرفة بينها المرتبة الأولى- كما يذهب ألفين توفلر، في كتابه تحول السلطة(6)؛ إلا أن المعرفة،هي الأخرى، راحت تحمل  شحنات القوة (التسلط والعنف..الخ) بذاتها، أي دون وسيط. و بدورها اكتسبت قيمة "الاعتراف" وظيفة مختلفة، ولدت دلالة جديدة له، كشفتها القراءة الحديثة الحية،التي لم تعد تجد في الاعتراف هدفا بذاته بقر ما تنظر إليه بوصفه "ضرورة لشرعية ممارسة السلطة (…) وابتكار السيطرة، يقتضي إبعاد و إقصاء و سحق كل ما من شأنه إضعاف سطوة هذا النزوع إلى الاحتكار".(7).
فمذ راح العصر الحديث يشهد تصالحا بين طبقتين،ظلتا على تناقض، إلى أن أوجدت المسيطرة بينهما(الرأسمالية) أسباب ووسائل نزع الفتيل، مستفيدة من تجارب التاريخ؛ وأيضا من قدرتها على تجديد دمائها، عبر صيانة كافية لعربة البروليتاريا، و ليس بالضرورة عبر إخضاعها بالعنف السافر..؛ مذاك، إذن، بدأت حركة فكرية نقدية جريئة، حتى الوقاحة، تمد مجساتها إلى كل مناطق نفوذ الحداثة، بما فيها الأكثر استقراراً و استتباباً.. لتعمل فيها، عبر  الفكر النقدي، حفراً ونبشاً في الأعماق، وكشفاً في المهمشات والمقصيات.. تفكك المنطوق عن مسكوتاته- إذا صح القول- و تستكشف المجاهيل المستورة خلف الحجب المصمته، و تنقب في القول عن مهملاته؛ بل تنقب أيضاً وسط الضوء الساطع للمناطق المنارة بأشعة العقل، حيث الخديعة يسترها الوضوح البالغ، ويلغيها الحضور، وتحميها البديهة.. يماثل ذلك- على ضفة الواقع- الإنسان المهمش، الفئات المقصية، و الجماعات المحجورة.. و ما الى ذلك مما لفظته أمواج الحداثة العتية إلى الشط، مطروداً بفعل حركة- مشرعنة- لقانونها الصارم والعنيف.
في هذه الحركة الفكرية التي يأخذ اشتغالها بالنقد السمة الأميز- إن لم تكن السمة الوحيدة- إذ كادت ترهن شغلها و تحصر جهدها في نقد ثقافة الحداثة، و خلخلة ثوابتها القارة.. حتى أنها استمدت منها اسمها ( ما بعد الحداثة)؛ في هذه الحركة تمكن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من شغل موقع مميز و مؤثر، كان من علاماته الأبرز اكتشاف ثقافة ظل أطلق عليها مصطلح "المعرفة المضطهدة"، تنتجها فئات بشرية عديدة، تتلقى الآثار الضارة لتكنولوجيا السلطة الحديثة. و تدخل في عداد هذه الفئات- كما يعدد- سجناء المشافي النفسية، الممرضون، الجانحون، المراقبون، ضحايا وحراس معسكرات الاعتقال، السود، اللواطيون، النساء، الساحرات، المشعوذون، المشردون، و الأطفال..الخ. مما أكسبه شهرة ربما فاقت معظم مفكري هذا التيار.
و بواسطة أداة (وظيفة) الحفر (النبش) راح فوكو يفكك مفهوم السلطة المعقد، لأول مرة، ويدعو   إلى مقاومته، و الظفر ب "حق جديد متحرر" لا من أشكال الانضباط، وحسب، بل وأيضا من "مبدأ السيادة".(8).
و رغم اعتبار الخصوم لهذه النقطة( التحرر من مبدأ السيادة)، و لأساسها المعرفي، و مهادها النظري، أي التفكيك، من المآخذ التي تكفي لأن ننسب ما بعد الحداثة، نفسها، إلى قائمة النهايات( الموت) التي أعلنتها بخصوص المفاهيم ( موت الأيديولوجيا، موت المثقف، موت المؤلف..الخ)، إلا أن ما بعد الحداثة، وحدها، تضطلع بالاشتغال النقدي، بكل اتجاه، و بكل جرأة. الأمر الذي يجعل من موضوعة المعرفة/ السيطرة موضوعة على غاية من الخطورة و الأهمية، في سيرورة الحداثة. بل و ربما تكون الموضوعة الحاسمة، أو لحظة النهاية في الموت الذي ينتظرها، في الدرجات الأولى لسلم القرن الجديد.
في ما يخص تناقض الحداثة، بين دافعي "إرادة المعرفة" و "ارادة السيطرة"، يركز محمد نور أفاية نقده على ذلك التناقض الذي يحكم علاقة البعدين التقني و المدني (السياسي)، بالبعد السيكولوجي الذي شرع للفردانية، و قيم الشخص الفرد بوصفه كائنا يحوز عقلا مستقلا، و ما يكشف عنه (التناقض) من "صراع بين نزوع الفرد نحو الحرية المطلقة وبين الحصار المحكم الذي تضربه حوله الحضارة الحديثة ذات النسيج المتين المترابط المهيمن الراسخ"(9)؛ و ذلك بعد أن يكشف زيف ادعاء الحداثة باحاطتها بكل الموضوعات، تفسيرا ونقداً و تعريفاً..الخ.                    
من هنا تتجلى ثقافة ما بعد الحداثة بصورة تفتح آفاقا انسانية أرحب أمام الخصوصية، بما تحمله (الثقافة) من مفاهيم تتأسس على حق التعدد، و حرية الاختلاف؛ و تنتعش بالتسامح- بما هو اعتراف بالآخر، عبر الطلاق مع مبدأ احتكار الحقيقة؛ و اطلاق ملكة النقد من كل قيد؛ بما في ذلك قيد منتجها (العقل)، و عبر التنازل عن عرش السيادة على حقوق الآخر، الروحية والمادية، و الخضوع و الاحتكام الى عقد التفاهم بين البشر، وحرية الحوار، واختيار أساليب العيش و التعايش..؛ وهي حقوق من دونها   لا تستقيم علاقات البشر، ولا تغتني بمعانيها الانسانية، ودلالاتها الأنبل؛ وبالتالي تلغى تلك الجماليات الناعمة لدى الضعفاء (خصوصياتهم)، وتجعل الحياة تأخذ لونا واحدا هو لون القوة.
    
(1) خالد غزال: في سجال الأسس الفلسفية للعلمانية، الحياة، 23/9/1996.
(2) محمد عابد الجابري: المشروع القومي العربي، محاضرة في الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية الذي أقامته كلية الآداب بجامعة دمشق 1995.
(3) طيب تيزيني: الصراع مع التراث في الفكر العربي المعاصر، الأسبوع الفلسفة (1995).
(4) صادق جلال العظم: حوار منشور في جريدة السفير البيروتية، 11/10/1996.
(5) علي حرب: أوهام الموضوعية وسبات الحداثة، الحياة 2/9/1996.
(6) ألفين توفلر: تحول السلطة، ترجمة حافظ الجمالي وأسعد صقر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1991.
(7) علي مصباح: الحداثة المخذولة، مجلة المدى، العدد23، السنة الرابعة 1996.
(8) هبرماس: القول الفلسفي للحداثة، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1995، ص428.
(9)محمد نور الدين أفاية،الحياة17/1/1996.
<!--[if !supportEmptyParas]--> <!--[endif]-->

السبت، 23 يوليو 2011

مؤسس البنيوية كلود ليفي ستروس- بقلم هاشم صالح


نادرا أن يتاح لمفكّر أو حتى لشخص عاديّ أن يعيش مائة سنة كاملة. ولكن لا ينبغي أن نحسده كثيرا على ذلك. فكلودليفي ستروس نفسه يعترف بأنّ تقدّم العمر يمثّل مشكلة أيضا لأنّه أصبح غير قادر من الناحية البيولوجية على العمل والإنتاج والإبداع. كلّ همّه أصبح يتمثل في محاولة الاستمرار على قيد الحياة لا أكثر ولا أقلّ. فتصبح الحياة بالتالي عبئا في مثل هذه الحالة أكثر ممّا هي متعة أو هديّة من القدرة الربّانية. أيّا يكن الأمر فقد أتيح له أن يعيش الوقت الكافي كي يكتب كلّ ما يريد ويعطي ما يمكن أن يعطيه. وهذا هو المهمّ.
ولد كلود ليفي ستروس في عائلة يهودية بورجوازية في الثامن والعشرين من شهر نوفمبر عام 1908 أي بعد جان بول سارتر بثلاثة أعوام فقط ولا يزال حيّا يرزق حتى هذه اللحظة في حين أنّ سارتر مات قبل أكثر من ربع قرن..وكان من المفترض أن يصبح فيلسوفا كسارتر لولا أنّ الأقدار شاءت له مصيرا آخر. فالواقع انّه درس الفلسفة مثل سارتر ولكنه زهد فيها لأنها كانت تجريدية أكثر من اللزوم آنذاك. ورغم أنّ جدّه كان الحاخام الأكبر لفرساي العاصمة الإمبراطورية لملوك فرنسا إلا أنّ علاقته باليهودية كدين ظلت واهية جدا. وهو لا يتردّد عن التصريح قائلا بأنّ أصوله اليهودية لم تعذّبه ولا اليهودية كدين. فهو يشعر بأنّه أقرب ما يكون إلى الديانة الإحيائيّة وبخاصة ديانة الشنتو اليابانية. وهي التي تمثل الدين الأصليّ لليابان في حين أنّ البوذية استوردت حديثا إلى تلك البلاد إذا جاز التعبير: أي في القرن السّادس الميلادي. وديانة الشنتو تقدّس الطبيعة تقديسا كاملا وتؤمن بالشرك أو تعدّد الآلهة. وهذا ما يعجب ليفي ستروس المولع بدراسة الحكايات الشعبية وأساطير الشعوب البدائية. إنها تؤمن بوحدة الطبيعة على طريقة ابن عربي وسبينوزا وآخرين. وبالتالي فهي المضادّ الكامل للديانات التوحيدية من يهودية ومسيحية وإسلام. وهي ديانات ينفر منها كلود ليفي ستروس على ما يبدو وخاصّة الإسلام كما سيرد لاحقا.. من هنا عدم اهتمامه إطلاقا بدين آبائه وأجداده. وربما كان لذلك علاقة بعدم مبالاته بإسرائيل بل وإدانته لمبدأ قيامها كما سنذكر لاحقا. والواقع أن عقيدة الشنتو تعني الإيمان بوحدة الوجود وأنّ الإنسان هو جزء من هذا الكلّ الغامر المدعوّ بالطبيعة آو الكون واسع الأرجاء. ودين الشنتو يملك مئات الآلهة من أرباب وربّات.
على أيّ حال فإنّ نقطة الانطلاق الأولى لكلود ليفي ستروس تعود إلى مكالمة هاتفية تلقّاها في خريف 1934 الساعة التاسعة صباحا كما يقول في كتابه الجميل: المداران الحزينان. فقد اتّصل به أحد المسؤولين عن التعليم الجامعيّ الفرنسيّ واقترح عليه منصب أستاذ علم الاجتماع في جامعة سان باولو بالبرازيل. وبقبوله لهذا المنصب كان قد حسم مساره الفكريّ. فهذا المنصب أتاح له أن يتعرّف على قبائل الهنود الحمر التي تسكن المناطق المحيطة بالعاصمة البرازيلية. وهكذا أصبح عالم اتنولوجيا بدلا من أن يصبح فيلسوفا كما كان متوقّعا من خلال دراساته الباريسية. ولكن هل تخلّى كليّا عن الفلسفة؟ أمر مشكوك فيه. فالواقع أنّ الدراسات الميدانية على أرض الواقع جعلت منه فيلسوفا أكثر واقعية وأقلّ تهويما في سماء التأمّلات الميتافيزيقية..
بعد عودته من سان باولو عشيّة الحرب العالمية الثانية انخرط في الحرب على خطّ ماجينو كعنصر تواصل وارتباط. ثم ترك الجيش المنهار المنهزم أمام هتلر وعاد إلى مهنة التدريس في ظلّ الاحتلال الألماني. ولكن سرعان ما اكتشفت حكومة فيشي العميلة أصله اليهوديّ فصرفته من الخدمة طبقا للقوانين العنصرية التي سنّتها. وقال له المفتّش العامّ آنذاك: كيف يمكن أن تذهب للتدريس في مونبلييه وأنت تحمل هذا الاسم؟ والمقصود اسم ليفي الدالّ على يهوديته..ومع ذلك فإنّه رفض أن يتحمّس للمشروع الصهيونيّ على عكس ريمون آرون وعشرات المثقفين اليهود الآخرين. وهنا تكمن عظمته في رأيي. فالمفكّر ليس عظيما بشهاداته العليا ولا حتى باكتشافاته العلمية بقدر ما هو عظيم بالانتصار على نفسه وعصبيته الدفينة وانتصاره لقضية الحقّ والعدل. يقول بالحرف الواحد هذا الكلام المدهش الذي نادرا ما يصدر عن مثقف غربيّ في حجمه يهوديا كان أم غير يهوديّ:
فهمي للمسألة الإسرائيلية مرتبط بمسألة أخرى أكثر حساسية بالنسبة لي وأقرب إلى قلبي. وأقصد بها تلك المأساة التي حصلت قبل عدّة قرون في الطرف الآخر من العالم. فهناك أيضا حصل نفس الشيء. فقد أتى إلى تلك البلاد مضطهدون ومقموعون آخرون للاستقرار في أراض ليست لهم، أراض مملوكة منذ آلاف السنين من قبل شعوب أكثر ضعفا من الفلسطينيين. ثم سارعوا إلى طردهم من ديارهم. وبالتالي فإنّي أشعر وكأن تدمير الهنود الحمر جرْحٌ في خاصرتي، جرح دامٍ. ولا أستطيع إلا أن أشعر بنفس الشيء تجاه العرب الفلسطينيين.
هذا الجرح العميق الذي أصاب ليفي ستروس عندما اكتشف حجم المجزرة التي أصابت الهنود الحمر من جراء اكتشاف أميركا ووصول الأوروبيين إليها سوف تكون له انعكاسات كبيرة على بحوثه وأعماله الفكرية. فالفكر المتوحّش لم يعد بدائيا إلى الحدّ الذي تصوّره علماء الانتربولوجيا طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين: أي طيلة مرحلة الاستعمار وسيطرة العرقية المركزية الأوروبية على العقول في الغرب آو حتى لدى بعض المثقفين في الشرق. انظر “الاستشراق معكوسا” حيث يتماهى المستعمر بفتح الميم مع المستعمر بكسرها إلى درجة أنّه يكره نفسه ويلعن ذاته. وهذا في الواقع قانون تاريخيّ كان ابن خلدون قد اكتشفه عندما قال بأنّ المغلوب يقلّد الغالب للاعتقاد بكماله. فهو يقلّده في شعاره وزيّه ونحلته وسائر عوائده. يقول أحد الباحثين ما معناه:
لكي نفهم النظرية الانتربولوجية لكلود ليفي ستروس في كتابه الفكر المتوحّش ينبغي أن نعلم ما يلي: في نظره لا يوجد أيّ فرق بين المبشر المسيحيّ الأوروبيّ الذي ذهب لاستعمار أميركا وبين الإنسان البدائيّ المتوحّش القابع في أعماق الغابات والذي لم يسمع بالمسيح أبدا ولا بالحداثة. ولكي نفهم الإنسان جيّدا، وهذا هو موضوع علم الانتربولوجيا، فإنّه لا يكفي أن ندرس أنفسنا على طريقة الفيلسوف الذي يمارس الاستبطان الذاتي للذات. ولا يكفي أن ندرسه من خلال فترة واحدة من فترات الماضي على طريقة المؤرّخ. وإنما ينبغي أن نحرق مراكبنا ونذهب بعيدا لكي نلتقي أولئك الذين يبدون بمثابة الأبعد عنّا. وعندئذ يمكن أن نقارن بيننا وبينهم ونكتشف الخصائص المشتركة والثابتة بين البشر. وهذا ما كان قد عبّر عنه جان جاك روسو الأستاذ الأكبر لكلود ليفي ستروس عندما قال عبارته الشهيرة: كي نفهم الناس يكفي أن ننظر إلى ما حولنا ولكن كي نفهم الإنسان ينبغي أن ننظر بعيدا..بهذا المعنى فإنّ روسو هو الذي أسّس علم الانتربولوجيا، أي علم الإنسان، كما يعترف كلود ليفي ستروس نفسه. فدون مقارنة بين شعوب مختلفة ومتباعدة لا يمكن أن نفهم القواسم المشتركة التي تجمع البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم وعاداتهم وتقاليدهم. ولا يمكن أن نفهم طبيعة الإنسان كإنسان. من هنا ضرورة القيام بأبحاث ميدانية على أرض الواقع في شتّى أنحاء العالم كي نتعرّف على أكبر قدر ممكن من الشعوب والثقافات البشرية قبل أن نحكم على الجنس البشريّ ونستخلص القوانين العامّة التي تتحكم به. من هنا أهمّية علم الانتربولوجيا: أي الدراسة المقارنة للأقوام والثقافات..
يرى ليفي ستروس أن ما كان ينقص علم الانتربولوجيا حتى الخمسينات من القرن العشرين هو نظرية تفسيرية شمولية للظواهر المدروسة أو المراقبة. كان يقول ما معناه: كلّ العلوم الإنسانية بحاجة إلى فلسفة تستخلص منها الدروس والعبر. وعلم الانتربولوجيا لا يشذّ عن القاعدة. وإذا كان ماركس قد استطاع بلورة هذه النظرية التأويلية لعلم الاجتماع فإنّ كلودليفي ستروس سوف يبلورها بالنسبة لعلم الانتربولوجيا. وسوف تكون هذه النظرية التأويلية هي الفلسفة البنيوية آو بالأحرى المنهجية البنيوية. بهذا المعنى فإنّ البنيوية ليست إلا النظارات التي راح كلود ليفي ستروس من خلالها يفكّ رموز الحضارات..
كان اللقاء الحاسم لكلود ليفي ستروس والذي أدّى إلى ولادة البنيوية قد حصل مع عالم الألسنيات الروسي رومان جاكبسون في أميركا. فقد شرح له النظرية البنيوية قائلا: فم الإنسان يمكن أن يطلق عددا لانهائيا من الأصوات ولكنّ كلّ لغة مضطرة لاختيار عدد محدود منها لتشكيل نظامها اللغويّ. وعن طريق تضادّها مع بعضها البعض فإنّها تتوصل إلى التمييز بين المعاني. وبالتالي فإنّ كلّ لغة هي عبارة عن تنويع ما انطلاقا من بنية عامة تتجاوزه. البنية الأساسية لا تتغير ولكن اللغات البشرية المشتقة منها هي التي تتنوع بتنوع العربية والانكليزية والفرنسية وسواها من اللغات البشرية. على هذا المنوال راح كلود ليفي ستروس كعالم انتربولوجي يدرس أساطير الشعوب البدائية وعلاقات القرابة السائدة بينها. وراح يقارن بينها وبين ما هو موجود لدى الشعوب المتحضرة. واكتشف هنا أيضا أن البنية الأساسية واحدة على الرغم من تنوع تجلياتها. واستنتج أنّه فيما وراء تنوع الثقافات البشرية فانه توجد وحدة نفسانية مشتركة للجنس البشريّ. فالحضارات البشرية العديدة لا تفعل إلا أن تركب بطريقة مختلفة العناصر القاعدية المشتركة لكل البشرية.
وهذا يعني أن أساطير وقواعد الحياة الاجتماعية هي الموادّ الأولية أو الأساسية التي يرى فيها ليفي ستروس ما يدعى بالثوابت البنيوية. نضرب على ذلك مثلا الزواج بالمحارم. فهو يشكّل قاعدة اجتماعية متبعة في كلّ المجتمعات البشرية قاطبة. لا يوجد مجتمع بشريّ واحد يسمح بالزواج من الأمّ أو الأخت أو الخالة أو العمّة الخ. والمجتمع إذ يجبر أعضاءه على الزواج خارج العائلة يضمن الانتقال من مرحلة الإنسان البيولوجيّ إلى مرحلة الإنسان السوسيولوجيّ أو الاجتماعيّ. وعلى هذا النحو يتشكّل المجتمع. وبالتالي فهذا التابو يشكل نمطا من أنماط البنية الثابتة أو الثوابت البنيوية.
ثم يردف كلود ليفي ستروس قائلا ما معناه: إنّ ميزة دراسة البدائيين أو مراقبتهم هي أنّ مجتمعهم أصغر وأكثر بساطة. وبالتالي فإنّ الدراسة الشاملة له ممكنة ولا تعترضها عوائق كثيرة. وهنا نرى أنّه لا توجد حضارة بدائية بالمعنى الحرفيّ للكلمة ولا حضارة متطوّرة. وإنما توجد أجوبة مختلفة على مشاكل أساسية ومتماثلة. إذ أن المتوحشين البدائيين يفكرون بل إنّ الفكر المتوحّش أو المدعوّ كذلك ليس أدنى مستوى من فكرنا! بل إنّه معقّد جدا وليس بسيطا ولا بدائيا على عكس ما نتوهّم. الفرق الوحيد هو أنّه لا يمارس دوره مثل فكرنا. فالفكر الغربي محكوم بالتنظير التجريدي. بمعنى انه يفرغ ذاته من المدركات الحسية لكي يشتغل بواسطة المصطلحات والمفاهيم المجردة. أما الفكر المتوحش للبدائيين فإنّه يحسب لا عن طريق المعطيات التجريدية والمفاهيم النظرية وإنما عن طريق الخبرة العملية والمعطيات المحسوسة: كالروائح والألوان والموادّ المختلفة. وفي كلتا الحالتين فإنّ الإنسان يحاول أن يفهم الكون أو يفكّ طلاسمه ورموزه. والفكر البدائيّ المتوحّش يتوصّل إلى ذلك بطريقته الخاصّة تماما كالفكر الحديث.
ثم يردف مؤسس البنيوية قائلا:
ما يميز الإنسان “المتحضّر” بين قوسين عن الإنسان “البدائي” بين قوسين أيضا هو موقفهما من التاريخ أو الماضي عموما. فالبدائيون لا يحبّون التاريخ حسب رأي ليفي ستروس. إنهم يريدون أن يبدوا أكثر بدائية عمّا هم عليه في الواقع. نقول ذلك ونحن نعلم أنّ المجتمعات البدائية شهدت التاريخ أو الكثير من الأحداث التاريخية كالحرب والسلم وعهود السلالات الحاكمة والثورات. ولكنهم يفضلون نسيانها ومحو آثارها. وذلك لأنّ المجتمعات البدائية تفضّل أن ترى نفسها وكأنّها ثابتة لا تتغيّر لكي تبقى على حالها كما خلقتها الآلهة. أما بالنسبة لنا نحن المحدثين فإننا نفعل العكس تماما. فنحن نعبد التاريخ ونقدّسه ونبجله. وذلك لأنّه عن طريق الصورة التي نشكّلها عن تاريخنا فإنّنا نحاول أن نفهم الماضي والحاضر ونتوجّه نحو المستقبل. وهنا يقول ليفي ستروس عبارة مفاجئة ومزعجة للمؤرّخين المحترفين: إنّ علم التاريخ هو آخر أساطيرنا نحن المحدثين. ونحن نرتّب التاريخ ونتلاعب به على طريقة البدائيين مع الأساطير. نحن نتلاعب به بشكل اعتباطيّ كي نشكّل رؤيا شمولية عن الكون.
ويرى كلود ليفي ستروس أنّ اكتشاف أميركا والاستعمار الذي تلاه كانا بمثابة كارثة بالنسبة للجنس البشريّ. إنّه جريمة الجرائم. ولكنّ هذا لا يعني أنّنا مذنبون أو مسؤولون عما فعله كريستوف كولومبس ولا حتى عما فعله أجدادنا لاحقا. فلا يمكن تحميل الأجيال الحالية مسؤولية ما فعلته الأجيال السابقة. هذا محال. وبالتالي فإنّ شعور المثقفين الغربيين بالخطيئة والذنب تجاه العالم الثالث بسبب المرحلة الاستعمارية لا مبرّر له في رأيه. نقول ذلك خاصّة لأنّ مسؤولية القادة الحاليين للعالم الثالث عن تدمير الثقافات المدعوّة متخلّفة لا تقلّ خطورة عن مسؤولية الغرب إن لم تزد عليها.
ثم يسجّل كلود ليفي ستروس هذه الملاحظة التي تهمّنا نحن العرب: الثقافات لا تكون مبدعة وخلاّقة عندما تنعزل كثيرا وتتقوقع على ذاتها. ولكن ينبغي أن تنعزل قليلا كي تستطيع أن تهضم وتتمثل ما تستعيره من الخارج. وبالتالي ينصحنا بعدم الانعزال الزائد عن الحد وعدم الذوبان الزائد عن الحدّ. وهو يرى أنّ اليابان تحقّق هذا الشرط بشكل جيّد: فهي تمتصّ الكثير من الخارج وترفض الكثير. اليابان هي اكبر بلد مترجم في العالم. ولكنها لا تهضم ولا تتمثّل إلا ما يتناسب مع طبيعتها وعبقريتها التاريخية.
ينبغي أن نتوقّف هنا لحظة كي نشير إلى مناقشة بالغة الأهمية كانت أبحاث ليفي ستروس عن الفكر المتوحّش والبدائيين قد أشعلتها. فقد ردّ عليه عضو الأكاديمية الفرنسية روجيه كايوا متّهما إيّاه بالإعجاب المبالغ فيه بالمجتمعات البدائية المتوحشة. وقال له ما معناه: من غير المقبول إطلاقا أن تنكر فكرة التقدّم وتساوي بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحضارية. وانتهى كايوا إلى حدّ القول بأنّ الحضارة الغربية متفوّقة على بقية الحضارات البشرية الآخرى. وهاجمه أيضا من هذه الناحية المستشرق المعروف مكسيم رودنسون وآخرون عديدون. وحتى تودوروف الذي كان معجبا به كثيرا انتقده من هذه الناحية. صحيح أنّه أقرّ بعظمة أبحاثه التي وجّهت في الخمسينات ضربة موجعة للعرقية المركزية الأوروبية. كما شكّلت ثناء لا مثيل له على ثقافات الشعوب البدائية والمستعمرة من قبل الغرب. ولكن إذا ما نظرنا إلى الأمور بعد أربعين سنة من حصولها فإنّه يمكننا أن نوجّه إليه بعض الانتقادات الوجيهة. فقد سقط في نوع من النسبوية أو حتى العدمية إذ ساوى بين جميع الثقافات البشرية وقال بأنّ ثقافة قبائل الهنود الحمر لا تقلّ أهمية عن ثقافة مفكّري باريس! ولكن فيما يخصّ هذه النقطة يبدو أن ليفي ستروس تراجع مؤخّرا عن حماقته وأقرّ بتفوّق الحضارة الغربية من حيث التطوّر العقلانيّ وازدهار العلمانية وانتشار الفكرة الديمقراطية. وربما لعب اندلاع الحركات الأصولية الإسلامية دوره في تراجعه هذا. بل إنّ ذلك شبه مؤكّد. ثم يأخذ عليه تودوروف مساواته للإنسان ببقية الكائنات الحية الموجودة في الطبيعة بل وحقده على الإنسان لأنّه بتهوّره واستغلاله المسرف للطبيعة أدّى إلى انقراض الكثير من الأجناس الحيّة. ويرى تودوروف أنّ الإنسان يبقى أعظم مخلوق على وجه الأرض ولا يمكن أن نساوي الكائنات الآخرى به من حيوانية أو نباتية. يضاف إلى ذلك أنّليفي ستروس اعتبر الإنسان مسيّرا لا مخيّرا ونفى أيّ هامش حرية للإنسان. واصطدم مع جان بول سارتر في مناظرة شهيرة بهذا الخصوص. وعندئذ قال عبارته المعروفة: إنّ هدف العلوم الإنسانية ليس تشكيل الإنسان وإنّما تفكيكه وتذويبه وانحلاله إلى عناصره الأوّلية. وهي عبارة خطيرة في رأي تودوروف وغير مقبولة إلا جزئيا. صحيح انه لا يمكن فهم الإنسان جيّدا قبل تفكيكه: أي قبل تفكيك عقائده وطقوسه وعاداته لمعرفة منشئها التاريخيّ وكشف هالات الأساطير والقداسة عنها. ولكن بعد تفكيكه ينبغي تركيبه على أسس حرّة جديدة. وعندئذ لا يكون التفكيك غاية في حدّ ذاته وإنّما وسيلة من أجل التحرير: أي تحرير الإنسان من الانغلاقات الدوغمائية المتحجّرة والخانقة التي تقيّده وتضغط عليه. وبالتالي فأهلا وسهلا بالتفكيك ولكن من أجل التحرير. (أفتح هنا قوسا وأقول إنّ العالم العربيّ الإسلاميّ أحوج بألف مرّة من أوروبا إلى التفكيك. لماذا؟ لأنه منغلق على ذاته ويقينياته الجامدة منذ مئات السنين. هذا في حين أنّ مفكّري التنوير الأوروبّي لم يتركوا شيئا إلا فكّكوه في العقائد المسيحية على مدار ثلاثمائة سنة متواصلة. وذلك بدءا من سبينوزا وانتهاء ببول ريكور مرورا بفولتير وروسو وكانط وهيغل ونيتشه وماركس وفرويد وهيدغر الخ..) وأخيرا فإنّ تودوروف يعيب على كلود ليفي ستروس سقوطه في الدوغمائية المتحجرة التي طالما حاربها. كيف؟ عن طريق انبهاره بالبنيوية إلى درجة انه اعتبرها المفتاح الوحيد لفهم الظواهر البشرية والاجتماعية. وهكذا أصبح ليفي ستروس ضحيّة نجاحه ونجاح المنهجية البنيوية التي أسّسها وأشاعها في العالم كله. وفي رأي تودوروف أنّ هناك مناهج أخرى غير البنيوية ومفاتيح أخرى لدراسة النصوص الأدبية أو المجتمعات البشرية. ولا ينبغي أن نكتفي بها. والدليل على ذلك أنّ التحليل البنيويّ الشكلانيّ للنصوص الأدبية شعرية كانت أم نثرية كشف عن محدوديته بل وجفافه الناشف إذ حوّل النص إلى جثة هامدة مقطعة الأوصال وقضى على روح الأدب وطراوته بل وجوهره. لا ريب في أنّ المنهجية البنيوية ضرورية ومفيدة ولكن كمرحلة أولى فقط في دراسة النصّ لا كمرحلة وحيدة ونهائية كما توهّم ليفي ستروس وجحافل البنيويين العرب والباريسيين. ويمكن اعتبار نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني بمثابة نواة أولية للمنهجية البنيوية..وبالتالي فنحن العرب لنا باع طويل في هذا المجال وقد سبقنا البنيويين إلى هذه النقطة بمئات السنين وان كانوا قد تجاوزونا بمسافات بالطبع.

الثلاثاء، 19 يوليو 2011

كتاب الحنان لعاطف خيري

كشف 
والحنانُ طعمهُ داكن’’ يميل إلى السُّمرة ،

وهو يُرى ،
يراه الرضيعُ متحققا غير منقوصٍ ، يراه ويحسّه مِثلما يرى صدْر أمّه
يراه المشرفُ على الموت كذلك ، يرى منه صفحةً من وجهه الممتنع
مشيحا بلونه إلى جهةٍ لا تطالُها بوصلة’’ ولا يتكّهن بها فلكيِّ مثابر.
وهو في كلِّ هذه الأحوال والمراتب مجبول’’ من طينة العصب المتماسكة الهشّة،
طينةٍ تبتلُّ بذاتها ولذاتها وتتشكّلُ على أصابع الحاجة والنزوع إلى آخر-كائنٍ
ما كان – لا ليمتزج فيه وينصهر ، بل ليتحقّق في عنصرٍ من عناصر التفرُّد
بالمكان في الذات العاشقة . والتفرّد بالمكان منزلةُ شاسعة’’ ومتشابكة.
إذ أن العشْقَ في جذْر مكان ، ومن انفرد به ، انفرد بالحواس
وبسائر شطحات الجسد ، لذلك فإنك لا تستطيع أن تتصوّر الله
أو تضع له ملحما ، فقط تتعشّقُه ، لأنه ملءُ المكان.
وللحنانُ لون’’ تخطىء العينُ اذ تراه – لأنه مُذاق – وتتوه الكفُّ حين تحاولُ
تحسّثس خطوطه المتفرّعة ، وتطشُّ القدمُ برغبتها في الوصول إلى أقرب قريةً
من قراه المستترة خلف نهر الظّمأ.
والذي سعى إلى لونه ، لعقه وذاقه ، لم يرهْ ولم يذهب إليه .
والحنانُ يلتهمُ بعْضَه ولا يشبع ، يشربُ بعضه ولا يرتوي
يقتلُ بعضه ولا يموت .
نسيج 
في منزل السر .. هنا ،
بالقرب من لوحةٍ له لم تتِم ، خلف شجرة رعاياه من كتمانٍ وتمتمةٍ وسكوت ،
بين أقاليم وقته – لا صباحَ لا مساء- جلستْ الصبيةُ تتنفس أنوثَتها
وتُحصي أوجاع فستانِها . سرب’’ من الأسرار يجتاح مسام الروح
ويقودها عبر دهاليز ملغومةٍ بالكشف والمعرفة
في منزل السر...هذا
حيث الخُطوة انفجار’’ مكتوم ،
والضحايا من عرق يجْلُون صورةَ العاشق ،
والندى كليمُ الطّين بين أصابعه يتفوّه بأسماء من نحتوا في شرق اللوحة
ما يُسمى بالشّمس
في منزل السر هنا ، طرق’’ على الباب
...لا يفتح أحد...والنوافذ في شُغْلٍ عن الهواء
كشف 
وللطيورِ في حنانها مسلك’’ فريد.
هى صورتُه في الفضاء ، وشكلُه الذي ارتضاه حين يحِنُّ إلى التحليق.
وللحنان في البشر عدد’’ من المنازل ،
في الطير منزلة’’ واحدة يُولد العصفورُ عليها ويموت ،
اذ أن الطير حاذق’’ وله من البصيرة ما للأنبياء ،
بل قل فوق ذلك . ولولا الخوفُ من الشِّرك والإلتباس
لأطلق الفقهاءُ لفظةَ ((حنان)) على كالم قبيلة الطير.
والطيورُ في رحلةٍ من الحنان لا تنقطع ،
حتى لقد شحب لونُها ودقّت ملامحُها وصار صوتَها إشارة.
هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش . والأولى – أى الغربةُ-
ما هى إلا البيتُ الذي استأجره الحنانُ في قلب الكائن الحيّ.
ومن أراد رؤيةَ الحنان لبرهةٍ ،
انتظر حتى يقع عصفورُُ في شَرَكٍ ، فأسرع ونظر عينيه.
وفي بقية الحيوان نزوع’’ إلى الحنان القديم ،
أي ما عجنه اللهُ في طينة الكائن من بهارٍ وأخلاط طّيبة
حتى صار الحنانُ سَمْعهم وبصرَهُم . أما البشر فقد يسوقُهم الحنانُ
إلى التهلُكة ، لأنه عند بعضهم يُعمي العقل ويفتحُ البصيرة ، فُيحيلُ الإنسان
إلى هجرةٍ متصلة في أقاليم التّيه والهذيان.
وآخرون تجد الحنان قد أشرق حتى أحالهم إلى كائناتٍ طيفية رقيقة ،
حالمة وعلى وشك البكاء.
نسيج 
لمن كنت تُطرَّزين ذلك الهدوء
تحت أي ظلٍ قُمتِ بإعداد قهوتِك
والنار! النارُ ستحرق أطرافَ نارِك
يستلُّ الفضاءُ من حولك ما لديه من حِيلٍ وأحابيل
كي تريمي ولو لثانية لفتةً على قماشة الأبيض المشدود.
تبتسمُ رئةُ الهواء إذ تزفُرين أرق الباحة
كلُّ شىء معدُّ لاستقبال ما علق بأهداب حذائك وأنت تمشين بحذر
على بساط الإرتباك
فرقة’’ من عازفي الحرائق يحملون ساكسفوناتهم المتوهّجة ،
ساكسفُوناتهم التي يُحب الآلهةُ سماعَها قبل أن يخلقوا بصمةً على خنصر أتثى
تعشقُ الظلال
كلُّ شىء معدُُ ، والشجرةٌ نفسُها تقفُ
كأنها ما أغوت أحدا ، كأنها ما عاشرت المشاهيرَ من الطيور
والمتعبين من أبناء الريح وجيل الزنادقة من قبيلة الشمس.
الشجرةُ نفسها تقفُ بين جمهور الفواكه الناعسه ،
والكرنفالُ يُنصبُ ملكا ويخلعه ، يُرسِل نبيا ويخذله ،
والعشبُ النحيلُ ذو الملمس الخشن يرقدُ في الصفوف الأخيرة
لا يُصفّق لأحد ، ولا يذكره أحد’’ في خطبة الوداع.
ربما كلُّ شىء مُعدّث .الكلُّ يذهب إلى محكمة الجمر ويعود أكثر ثقةً بالجحيم
العدلُ في الماء شىءُُ من صنوف الفضيحة ،
تتوضأ اللغةُ بنا ولا تُصلّي
تبلعُ سريعا لأنني أتّقى الليلَ بالخمر
الطبيعةُ لا تعرف الحِداد
ليس هنالك شىء’’ مُعَدُّ
كشف 
وعندما يحنُّ الرجلُ يحدثُ أمر’’ ما في النسيج النفسيّ والعضويّ منه.
بل أيضا في المكان والزمان حوله ، شىء أقرب إلى الخيمياء القديمة ،
عندما يجتهد العالِمُ في استخراج الذهب من معادن خسيسةٍ ،
تجده مهووسا بالبحث عن شيءٍ هو في حكم العدم ،
أو تراه يهتبلُ الفرصةَ لأقتناص سريرته في سعيها إلى ما تبتغي ،
وهو في كلِّ الأحوال ناقص’’ ومعرض’’ للعطش.
يقولُ محمد المهدي المجذوب:
أريد أن أكون واحدا
مُبرّءا من الصباح والدياجر
ولل أكون حاجةً ساعيةً لآخر
وفي خَلق الانسان بشكله الآدمي المعروف فكرة’’ أصيلة ،
هى الحاجة والفقد. فاذا هو فرد يديه أحدث فراغا ،
وكذلك رجيله . أنظرُ إلى أصابع كفّه المتفرقه ، وفمه الفاغر بالنداء
كل ما فيه يدعو للإلتحام. تلك الجهاتُ وغيرها من الجسد
يقطنُها الحنانُ كما يقطنُ الليلُ في الليل.
أما إذا حنّت الأنثى فإنك واجد’’ سرا من أسرار الحرفين كافاً ونون
و((كُن)) هى مفتاح الوجود والفناء معا ، وهى سرُّ اللغة حينما تزدهي
بقوة الفعل وقدرة التكوين وإجابة الطلب.
وحنينُ الأنثى يقعُ بين الحرفين ، في موضع لا يخص الكاف
ولا ينتمي إلى النون وموقعه هذا زماني وليس مكانيا ، لأنه لا يُخْتبر
ولا يُقاس بأدوات المكان
كادت الأنثى أن تكون كلها حراما
لولا اللبْس في موضع حنينها بين الحرفين
والحنينُ لديها ضرب’’ من المرض – المرض اللطيف
يصيبها فينتقل إلى الجمادات والنبات والحيوان
من ثم الانسان من حولها ،
ويستشعر المعنيُّ وإن كان في حكم الأموات.
والحنان الذي نعْنيه هنا الدَّفقُ الابتدائي النقي ،
عندما يجاهدُ الطينُ لأن يغدو نارا ، والنارُ لأن تغدو طينا.
ذلك الحنان الغريب ، غير مدَّعِ ولا مبتذل ،
هو عند الأنثى يمنحها قدرة الاختراق والوصول وكشف سُدف الغيب
والنظر إلى ما بعد الظاهر ، بل يجعلها حاذقةً في حَبْك الحِيَل
وسُبل الامتلاك وورود بئر من تُحب ،
لأن الحنان عندها يبدأ مُهرجا وشيطانيا ،
إلى أن يبلغ رشده ويتوب اذا ما غدت أمّا ،
والحنان لدى الأم مشهود’’ ومعلوم وهو باب’’ أفضى بها إلى الجنة.
نسيج 
النارُ!النارُ ستحرقُ أطراف نارِك
أصعدُ هاويةً من نشاذٍ وقلق ، أجرُّ قطيعا من التجاعيد تجترُّ ضجر الليلة الفائية
أمدُّ لساني للأغبياء من حفدة الغبار ، أبتلعُ كلمةً تساوي بالضبط ما يحدث حولنا
والشارع وقت ما ننشغلُ بتفاصيل صحبتنا ، يبدو طيّبا
والمغيب في انتظارنا ، كأنه لن يفعل الشفق إلا حين تكونين بجانبي
كأنما نزلتِ فجأةً من غصن رحيم.
أصعدُ هاويةً من سؤال وفَقْد
تتسللُ اقمارك الحانيةُ ضلال عتمتي ، ويُضاءُ رصيفُ الذكريات شيئا فشيئا ،
أعرفُ كم من الوقت مضى عليّ وأنا أحاور نجمةً عصيةً تقطنُ سماءَ الوهم مني
وأعرف كم من حقول للقطن صبغُتها بلونٍ لا يخص التجربة .. لا يخص الحقل
وأعرف كم أنا صريع’’ للهرب
كم أنا مريض’’ بك ، في الغياب والحضور...سيّان هذا الذي يكون
كم مضى من الليل وأنت تعتّقين هذا الصمت ،
كم مضى من التداعي وأنت تنشلين حروف العلة من اعترافك أمام كاهن البوح
كم مضى منك ،
وأنتِ في ملكوت هذا الهرب.
كشف 
أولُ الحنان حاء’’ ونون.
الحاءُ عندي حرف’’ متطرف’’ من حروف الألم ،
هو صوتُه الذى يكذب ،
عكس الهاء التي تدّعي صلتها بالألم والتأوّه
لكنها تذهب لتدخل في صوت الضحك أيضا.
النونُ حرف’’ شهير .
وبين الحرفين صلة’’ شُبْهة’’ ،
اشتباه معنى الحنان نفسه وتفسير مقتضى أحواله.
نسيج 
واشْرِقي
فيَّ الثياب العطوفهْ
فيَّ
بالمناقير تلِحُّ
سادرةً في سُمْرةٍ جائره
كلُّ ما فيكِ يركبُ رأسه
تطففين الفراقَ ، ولنا
نزهة’’ من غيوم اليدين
سأنفَقُ ربما في خلاءٍ قريبْ
فارفعي سرَّ جوعي
للجناب الشفيف من الطين ،
يرعى شجراً من الأسرار
اعودُ مرضاي فيكِ وأعلو
أزْهقُ عشرين آهةً في الطريق النحيل إلى القلب
تجفلُ شامة’’ لصق روحك
في ظلمة الثوب تدقّث
وادْخُلي في سُهادي
اُُدخلي نَوبتي
كشف – نسيج 
الحنانُ أن تغيب .
الحنان في المغيب
ذات شفق ،
فضاء’’ يتهيج ،
يخلعُ ملابسه ويقصُّ الضفائر ،يلقي بعيدا بأظافره وقشرة رأسه .
ضفائرهُ المجدولةُ ، يلطِّخها بدمٍ ساخنٍ ويلوّحُ بها في فراغ .
على مقربةٍ ، تغلي قدور’’ ضخمة’’ من نحاس اجداده ويتصاعدُ البخار
الذي لا يفشي سر ذلك المحترق.
الآن السماءُ عارية’’ وعلى أُهبْة الرسم ،
على أُهبْة الحنان الذي مظهره الإرتباكُ ، وباطنه وحشة’’ وغربة
لها شكلُ صنارة الصيد ، تنغرز في النسيج الدقيق الرطب من لهاة الروح
وتسوقها على موجةٍ لا تعترف بقانون الطفو ،
فأنت الغريقُ لا محالة ، وأنت آخرُ صيحةٍ أطلقها آدمُ حين حاورته حواءُ .
بالدفء والرائحة المستحيلة ،
حينها فالحنان له وشائجُ لصيقة’’ بالتأتأة والفأفأة والحبْسة ،
أيضا الخرس ، لأنه يُلغي الكلام ويصيبُ الفردَ بالتّشتت ،
راميا باللغة وسائر علوم الاتصال إلى الأرض
واذا أُصيب احدهم بالحنان تجده لا يُحسن التصرف أو الإنصراف ،
إنما هو يتردّد في فناء الكلمة لا يدخلها ولا يخرج منها .
وإذا حَدَثَ وفتح اللهُ عليه بشيء من البيان
تسمعُ صوته كأنه آتٍ من غيهب سحيق ،
واذا أمعنتَ النظر في غور عينيه فإنك تحظى بمشهدٍ فريد ،
هو كيف ترفُّ الجفونُ والحواجب دونما سبب ،
بل قُل كيف تُحضّر الدموع في مقلة الكائن الحي .

والحنانُ حين يشتدُّ أسبابه ودواعيه ،
يقفُ حائلا والإفصاح ، عدوا لدودا والبيان
لذلك ، نحنُ لا نفهم لغة الطّير.

الاثنين، 18 يوليو 2011

دريدا و التفكيك، بقلم علي حرب

في ما يلي نصّ للفيلسوف العربي علي حرب حول التفكيك عند جاك دريدا
المصدر: جريدة "الشرق" (الدوحة - قطر)
التاريخ : 29 أكتوبر 2004
______________________

مع غياب جاك دريدا جرى الكلام على سيرته في ما سبق. يجدر الآن الكلام على فلسفته وأعماله. ولا مراء أن الرجل يعد مخترعاً في مجاله. لقد افتتح حقلاً للدرس والتنقيب، واستخدم طريقة في التفكير غير مسبوقة، كما ابتكر جملة من المفاهيم التي تركت بصماتها على ساحة الفكر في العالم، كما هي مفاعيل مصطلحات «الأثر» أو «الإرجاء»، وبخاصة "التفكيك" الذي تندرج تحته أعماله. 

1- الأثـر : بالنسبة الى حقل التفكير دشن دريدا مجالاً أطلق عليه اسم «علم الكتابة»، كما يشير أحد مؤلفاته. والمقصود بالكتابة هنا ليست الحرفة بل الخط والحرف، أي ما هو مسجّل مقابل ما هو منطوق. والجدة هنا قوامها التركيز على المكتوب لا على المسموع، على النص لا على الكلام، على الأثر لا على الصوت. وهكذا فإنما يُكتب ويدوّن، هو المعول عليه، في ما يُقال ويفهم، من وراء التهويمات العقلية والتشبيحات المثالية، التي نجدها لدى فلاسفة الهوية والماهية والأنا والعقل، حيث المعاني والمفاهيم هي جواهر خالصة أو محضة تقوم في ذوات روحانية أو متعالية. بهذا يقف دريدا ضد التقليد الفلسفي الراسخ منذ أفلاطون، والذي يقدِّم القول على الكتابة، ويضن بالحقيقة على النشر والإذاعة. 
وإعطاء الأولوية لما يُكتب ويدون يفيد أمرين: 
الأول انه لا انفكاك للمعنى عن العلامة وللمدلول عن الدال، أو للمفهوم عن الأسلوب. من هنا قول دريدا: «لا شيء يوجد خارج النص»، ولا يعني ذلك نفي الوقائع أو التعامي عن الحقائق، كما حسب الخائفون على الحقيقة الموضوعية والمذعورون من منهج التفكيك، وإنما يعني أن النص يسهم في تشكيل الموضوع، وأن الحقيقة لا تسبق النص عليها، وإنما هي مرجعه بقدر ما هي ثمرته، وأثر من آثاره. إنه يعني أن النص الذي يُحيل الى الواقع أو الحدث، إنما يخلق واقعه ويفرض نفسه بقدر ما يترك أثره ويشكل مجاله. 

2- الإرجـاء : أما الأمر الثاني الذي يفيده تشكيل علم الكتابة والأثر، فهو أنه لا تطابق بين المعنى والعلامة، أو بين المقول والمكتوب أو بين المفهوم والموجود. مما يجعل من المتعذّر القبض على حقيقة الشيء واكتناه ماهية الحدث. فالمعنى يستعصي على الحصر، والمفهوم هو صيرورته الدائمة، ذلك أن النص، بما هو أثر، ليس وحيد الدلالة أو الوجهة، وإنما هو منسوج من الالتباس والتوتّر أو التعارض، بحيث يقبل غير تفسير أو تأويل، بقدر ما يكون غير مطابق لما يطرحه أو يدّعيه. بكلام آخر، إن الاعتراف بأن للنص أثره ووقائعتيه، بمعزل عن مؤلفه، يعني أنه أقل أو أكثر أو غير ما يقوله. مما يجعل المعنى رهن قارئه الذي يقرأ في النص ما لا يرد على ذهن مؤلفه. وهذا يقودنا الى الإرجاء بوجهيه المكاني والزماني. 
ومفاد الوجه الأول أن المعنى، كونه يلابس النص ولا يعرف إلا من خلال أثره، لا سبيل الى التحقق منه أو التثبّت من هويته، وإنما هو يختلف عن نفسه، باختلاف القراء للأثر، أي هو نتاج بقدر ما هو نسبة لا تنفك تتغير بين الكلمة والشيء أو بين الكلمة والكلمة أو بين الأشياء. وهكذا كل قراءة تنتج معناها وتخلق حقيقتها بقدر ما تقوم بصرف اللفظ ونسخ المعنى أو تحويل المفهوم على سبيل الزحزحة والإحالة، مما يضاعف النص عبر القراءات المتباينة والمتلاحقة وبصورة تتسع معها دوائر تأثيره وتتعاظم مفاعيله. 
أما الوجه الثاني للإرجاء فهو استحالة القطع والجزم في الحكم على الأشياء، ما دام النص متعدّد المعنى، والأثر ملتبس الدلالة أو مزدوج الإحالة. ولذا لا وجود لقول فصل أو لكلمة نهائية في أي موضوع أو أمر أو شأن. إنه نوع من تعليق الحكم يذكرنا بالفرقة الإسلامية المعروفة باسم «المرجئة»، التي امتنع أهلها عن اتخاذ موقف من الصراع بين عليّ ومعاوية، مرجئين الحكم الى يوم القيامة، حيث الله يحكم يومئذ في ما يُختلف فيه. وهكذا فالمعنى مؤجل أو مرجأ، لأنه لا قوام له بذاته بمعزل عن النص الذي ينتج الفروق والاختلافات بقدر ما هو مساحة للتباين والتعارض. ولذا لا سبيل الى اختزال النص والأثر، كما لا سبيل الى الوقوف على مراد المؤلف. نحن نقرأ لا لكي نبحث عمّا اراد المؤلف قوله، وإنما نقرأ لكي نكشف ما لم يقله أو ما كان يمتنع عليه القول. 

3- التفكيـك: يقودنا ذلك الى التفكيك الذي هو فاعلية فكرية نقدية تقوم على خلخلة البداهات التي ارتكز عليها الفكر الفلسفي الماورائي منذ افلاطون حتى هوسرل. وعمل التفكيك يطاول منظومة من المفاهيم تحكمت في الأذهان أخصّها بالذكر: 
مركزية العقل، حضور الذات، الأنا المتعالي، منطق المطابقة والمصاقبة استراتيجية القبض والتيقن. 
من هنا فإن عمل التفكيك يقوم دوماً على إخضاع البنى، أكانت نصوصاً وخطابات أم مؤسسات وسلطات، أو افعالاً وممارسات، الى الدرس والتحليل، للكشف، عما تتأسس عليه أو تنبني به أو تخفيه أو تمارسه من المفارقات والتناقضات أو الخدع والمخاتلات أو الحجب والتعتيم. 
ولا يعني ذلك أن التفكيك، يُلغي طرفاً من أطراف الثنائيات الفلسفية لحساب طرف آخر. فليست المسألة مجرد قلب للأمور. بالعكس، إن التفكيك، يستمد مسوغه من كون الضد لا ينفك عن ضده: فالعقل يلابسه الوهم، والحقيقة لا تنفك عن الخداع والتضليل، والذات أبعد ما يكون عن ممارسة السيادة والقبض والتحكم على ذاتها وعلى أشيائها. والمثال هو النص بالذات. ذلك أن اللغة التي نعبّر بواسطتها والتي توجد قبلنا، تصنعنا بقدر ما نحاول التأثير فيها. مما يعني أن ما نخلقه أو نشكّله من النصوص يتعدّانا بمفاعيله وأصدائه التي لا يمكن حصرها أو توقعها. 
ولا شك أن مثل هذه الاستراتيجية لا تفي بالتعبير عنها أو تجسيدها، لغة ونصاً، أنماط الخطاب الفلسفي التقليدية، ذات الطابع الاستدلالي، المستقيم والمتنامي بصورة متصاعدة. وإنما هي تحتاج الى أسلوب آخر، يتّسم بالالتواء والمواربة والمخادعة. فلا استقامة ها هنا في الأسلوب، ما دام لا معنى يقوم بذاته، أو ما دامت لا توجد حقائق مطلقة. وقد تجلّى ذلك في ولع دريدا في الاستثناءات والتعابير المنسية أو الألفاظ المشتبهة، أو التلاعب بالبنية الصرفية للمفردات، من أجل تطعيم المعنى، كما هو شأن مصطلح الإرجاء «Différance» الذي انبثق من تهجين مصطلح الاختلاف «Difference»، وذلك بإحلال حرف «a» محل حرف «e». 
خلاصة القول: إن التفكيك، كما ابتكره ومارسه دريدا، يأتي دوماً من حيث لا نتوقع بقدر ما يخربط العلاقة بين الممكن والمستحيل، وذلك بالتعامل مع المستحيل بوصفه شرط إمكان الحدث، إذ الحدث هو الذي يخربط سلاسل الأسباب ويجري على خلاف دفتر الشروط. 
بهذا المعنى إن «الإمكانية الوحيدة» التي يملكها الشخص هي «تجربته مع المستحيل»، بمعنى خرقه للشروط، أي هي القدرة على أن يفعل الواحد اكثر مما يقدر عليه، لأنه إذا كنا نفعل فقط ما نقدر عليه، أو لا ننتظر إلا ما نتوقّعه، فمعنى ذلك أننا نسبر إمكانات موجودة أو ننفذ برنامجاً مسبقاً، في حين أن الفعل يعني أن نفعل ما كنا نعجز عن فعله، بفلق الممكنات وتفتيق القدرات لكي نأتي بما هو غير متوقع. 

على هذا النحو تعامل دريدا مع القضايا والأحداث، كما أرى: اعتبار المستحيل شرط إمكان الحدث. ولذا فقد لجأ الى كتابة كلمة مستحيل «Impossible» بصورة مغايرة: «Im-possible»، بحيث ان المستحيل لا يعني عدم الإمكان، بل غير الممكن، أي ما يحيل الى إمكان آخر لا نراه أو لا نملكه، علينا اجتراحه أو صنعه، بصورة غير مسبوقة ولا متوقعة. هذه نبذة عن التفكيك من قراءتي للفيلسوف دريدا. ولذا أنا لا أقول هكذا تكلّم دريدا، على غرار القائلين هكذا تكلّم زردشت أو هكذا تكلّم ابن عربي. ففي ذلك وجه من وجوه الخداع التي يكشف عنها التفكيك.



المصدر: المنتدى العربي للتفكيك