الثلاثاء، 19 مايو 2015

مفروش.. تلجيم الثقافة والمعرفة


لطالما كنت مندهشاً ولا زلت من عداء الأنظمة الشمولية للثقافة والمثقفين، وكنت أعتقد أن هذا العداء هو وليد الصراع التاريخي بين "المثقف والسلطة"، كنت أفسّر هذا الصراع في إطار المواجهات السياسية المباشرة، عندما يأخذ المثقف موقفاً واضحاً من السلطة الحاكمة، وفي تاريخنا السياسي ما تضيق به هذه المقالة الموجزة لو حاولنا أخذ بعض هذه الأمثلة وتحليلها هنا، ولكن ما يهمّني هنا هو العداء الذي تظهره السلطة للمثقف، وأعني به هنا ضيق صدرها وتحاملها عليه ومحاولة تكميمه أو إستيعابه في جلبابها، حتى ولو لم يتّخذ موقفاً صريحاً ضدها، فهي تضيق به إن هو غرّد خارج سربها، وينقلب هذا الضيق إلى حالة من الغيرة إذا ما كان المشروع الذي يخطه المثقّف جاذباً للجمهور ووجد رواجاً بينهم، وتتحوّل هذه الغيرة إلى سلوك فتّأك تقوم فيه السلطة بالفتك بالمثقف الذي سحب منها الأضواء، وهذه الغيرة سببها أنّه يفضح السلطة ويعرّيها ويوضّح ضعفها.
تتستر الشموليّات في حربها عل المثقفين بذرائع شتى، تستند في الأساس على آيديولوجياتها أيّاً كانت، هذه الآيديولوجيات بما هي أنساق سلطوية تشرعن التفكير والممارسة فهي تضع المعايير أيضاً لما يجوز وما لا يجوز فعله، وهي المرجعيّة الوحيدة التي يبطل ما عداها، بل بالأصح تبطل ما عداها بفعل السلطة التي تستند عليها، وغنيٌّ عن القول أن تلك السلطة تمارس العنف بنوعيه المادي والرمزي بحسب ماكس فايبر، تشتغل السلطة لفرض آيديولوجيتها عبر عدة أدوات تتراوح مابين القمع عبر القوانين والسياسات واللوائح، وتتمادى حتى تصل لمرحلة الإستئصال المادي السافر، وفي كل هذه الحالات تضيع سيادة حكم القانون وتفقد السلطة القضائية إستقلاليتها، وتصبح السلطة التنفيذية هي المسيطرة والمتحكمة في كل شيئ، فتبتلع أجهزة الدولة والسلطتين القضائية والتشريعية، ويمكن تعميم هذه الملاحظة بشكل كبير على كل النظم السياسية الشمولية بكل أشكالها وآيديولوجياتها التي تستند عليها لشرعنة ممارساتها، وغنيّ عن القول أن الدولة السودانية في نسختها الإنقاذية هي أحد النماذج الصارخة التي تمثل نموذج سحق المثقفين والمبدعين، ومحاربة كافة أشكال الثقافات التي لا تتماشى مع التوجهات الرسميّة لآيديولوجيا الإنقاذيين الإسلاميين.
تبلورت آيديولوجيا الإسلاميين الحاكمين في إنفاذ المشروع الحضاري، وهو مشروع بحسب منظّريه يهدف إلى إعادة صياغة الإنسان السوداني، الأمر الذي يتطلّب هدم كل ما يخالف تلك الرؤية وإعادة بناءه بما يتماشى معها، فقامت معاول الإسلاميين السودانيين بإستهداف كل ما رأوه مخالفاً لرؤيتهم، ما يهمّنا هنا هو ما فعله هؤلاء في جانب الثقافة والإبداع، لقد شهد عصر التسعينات هجمة متوحّشة على التراث الثقافي والإبداعي بقصد محوه وإحلال تراث حضاري في مكانه، تمّ تدمير مكتبتي الإذاعة والتلفزيون السودانية بكل الإرث الذي تحملانه، تم تدمير وحرق الإسطوانات والأغاني التي تحمل غزلاً في العيون أو وصفاً حسياً مباشراً أو تلك التي تشبه الحب بالخمر، قام أحد المعاتيه بتدمير التماثيل الموجودة في كلية الفنون الجميلة بإعتبار أنها أصنام! كما تمّ تدمير المجسّمات التي كانت موجودة في الصواني الدوّارة في شوارع الخرطوم بما فيها تمثال الجندي المجهول، كما تمّ تدمير المسارح ودور السينما كما تمّت تصفية كل المعالم الثقافية والتاريخيّة بدقة متناهية! لقد قام الإسلاميّون بإزالة كل ألوان الإبداع وأحلّوا محلّها لونهم القاتم الوحيد، وهو لون ثقيل ومليئ بالكآبة والإحباط، لون يزيل الأغاني الفرايحية المليئة بالحياة ويركّب عليها أناشيدهم الكئيبة التي تحتفي بالموت، كما يزيل حديقة الحيوانات ويؤسس في مكانها برج الفاتح، التدمير الممنهج الذي أصاب الفنّان محمود عبدالعزيز يمثّل التدمير الذي أصاب الجيل الذي نشأ في عهد الإنقاذ، كما يمثل التدمير الذي يصيب الثقافة والإبداع في السودان.

تمادى الإنقاذيّون في غيهم لا يردعهم رادع ولا ضمير، في تصفية كل الرموز والمؤسسات والشخوص الثقافية والإبداعية التي لا تتماشى ومشروعهم الحضاري، وما الإستهداف الممنهج الذي تواجهه مفروش إلا حلقة صغيرة في هذا المشهد الضخم:
مفروش هو معرض لتبادل الكتب المستعملة، حيث يأتي باعة الكتب من جميع أنحاء الخرطوم لبيع وعرض كتبهم في ساحة إتنيه الشهيرة في الخرطوم أول ثلاثاء من كل شهر، معرض مفروش تمّ تأسيسه بتخطيط وتدبير جماعة عمل الثقافيّة وقد نال شهرةّ واسعة وسط الطلبة الجامعيين والمثقفين والمبدعين والقرّاء، وتطوّر المعرض وأصبح يضم فعاليات موازية فشكّل مهرجاناّ ثقافياً صغيراً حاز على إهتمام الجمهور والإعلام، وشكّل فعالية إجتماعية صارت بارزةً مساءات الخرطوم الكئيبة، يوفّر مفروش طائفةً واسعةً من عناوين الكتب بأسعار مناسبة لروّاده، فمن كتب البنيوية والتفكيكية والألسنيات وحتى كتب التاريخ وإدارة الأعمال والكتب الإسلامية وكتب الأطفال والروايات من الأدب اللاتيني وحتى أدب الشرق الأدنى، يمثّل تنوع الكتب التي توفّرها مفروش تنوع كافّة أمزجة الجمهور المختلف في أعماره وتصنيفاته والتي اختبرها باعة الكتب جيّداً فتخصّصوا في توفيرها له بكافّة السبل. والحال كذلك من المتعذّر بل من المستحيل إحصاء عناوين الكتب المعروضة في معرض يقام بهذا الشكل العفوي، إذ أنّ مهمة منظمي المعرض وهم جماعة عمل هو توفير الساحة وتجهيزها وتنظيمها بالشكل اللائق الذي يسهّل مهمّة العارضين في العرض وللجمهور التجوّل بحريّة حسب المساحة المحدودة والمتاحة، فمجرّد التفكير في إحصاء هذه الكتب يعتبر أمراً شاقاً، وهو الفكرة الشيطانيّة التي تفتّقت عنها ذهنيّة مجلس المصنّفات الأدبية والفنيّة الإتحادي لأجل تعطيل المعرض الذي يغذّي عقول الآلاف من المتابعين ويلهم أمثالهم عشرات الآلاف.
بتاريخ 3 مايو وعلى صفحتها على الفيسبوك نشرت جماعة عّمل الثقافية منشوراً تعتذر به عن إقامة العرض في تاريخه، جاء في ذلك المنشور: "تُعلن جماعة عمل الثقافية عن تعليق معرض مفروش لبيع وتبادل الكتاب المُستعمل الذي كان مقرراً له الثلاثاء القادم 5 مايو 2015م ، وذلك بسبب تصاديق طولبت بها الجماعة من قبل السلطات صاحبة الإختصاص مٌتمثلة في إدارة المصنفات الأدبية والفنية ولاية الخرطوم وتصديق آخر بقوائم الكتب المعروضة من مجلس المصنفات الأدبية والفنية الإتحادي ، كما أننا لم نتمكن أيضاً من إستخراج تصديق وزارة الثقافة لإقامة معرض مفروش ، التصديق الذي كان كافياً طوال الثلاثة سنوات الماضية من عمر المعرض ."

إن العنت والتحدّي الذي تواجهه مفروش ليس فريداً من نوعه، هو نتاج خبرات متراكمة من الممارسات السلطويّة تدجّجت به الإنقاذ خلال 26 عاماً من ممارسة القمع، وليس علينا أن نحبط كلّ مرّة وكأننا نواجه الأمر لأول مرّة، فعلى النقيض من ذلك علينا أن نرى ما يحدث على أنه ممارسات متسقة في إطار السياق العام، يفترض الأمر أن تجزئة القضايا بعزلها عن سياقها العام يؤدي إلى نتائج ضارّة دوماً، يكسبنا التعامل مع القضية في إطار سياقها العام فهماً شاملاً لها، وبالتالي التعامل بالصورة الصحيحة معها، وحسناً عملت جماعة عمل بالإعتذار عن قيام المعرض في مواعيده المحددة، فالحرب التي قرّر مجلس المصنّفات الأدبية والفنية ضد مفروش هي حرب ذات طابع قانوني ولكنّها ذات طابع فكري ومفاهيمي، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، فالقانون الذي يستند عليه المجلس هو قانون سلطوي يميل إلى الرقابة والمصادرة والحظر والتحكم ويعتبرها الأساس الذي يستمد منه قوته، و يمكن قرائتها في حيثيات بيان مجموعة عمل أعلاه، فالمطالبة مجرّد المطالبة بأسماء عارضي الكتب قبل قيام المعرض نفسه يعتبر تعجيزاً فما بالك وقوائم الكتب كلها، في معرض هو في الأساس مهرجان شعبي ويقوم على أساس عفوي وبمبادرات جماعية (يمكن أن تقرأ جمالية أيضاً) من المهتمّين والقائمين على المعرض. أقول قولي هذا وأنا أكثر يقيناً أن خوض المعارك في أرض القانون لوحدها عراك خاسر، فالقانون (وأقصد مطلق كلمة قانون في ظل المشروع الحضاري) قانون متحيّز ومتعسّف في نصوصه وفي تطبيقه من قبل الجماعات القائمة على تنفيذه، ويكفي شاهداً أن كلمة السلطات التنفيذية فيه تعتبر كلمة نهائية، وهو الأمر الذي يجب أن يكون بيد القضاء (المستقل طبعاً)، ولكن حتّى يأتي ذلك اليوم فعلينا خوض الصراعات الفكرية في مواجهة عسف السلطة وليس الصراعات القانونية فقط، غياب وتغييب الكثير من المؤسسات وعلى رأسها إتحاد الكتّاب السودانيين تكفي كشواهد في هذه المسألة، وما تغييب مفروش إلا حلقة في تلجيم دوائر المعرفة والثقافة ويستمر العرض.