مبحث في حالات الشوق


في البدء كانت حبيبتي و لم يكن معها شيئ، كانت عينيها الآسرتين و كانت ضحكتها الخلابة و وجهها المشرق، كان المكان يضيئ لمجرد ذكر إسمها، ثم قالت حبيبتي ليكن الشوق!! فكان الشوق يفعل فعله و يسطو سطوته على وجودي، ثم كان ارتباكي حاضراً من جهتي كدفاعات ضد حضورها الطاغي رغم قارتين و محيط يفصل بيننا، فعجزت عن تبين هذه المحايثة اللطيفة رغم فوارق المكان.

و كان الشوق أول ما بدأ عصفوراً مخلوقاً من طينة الحنين، و يقال أنه صنف من الحمام الزاجل كان يتراسل به عاشقان يتحايلان على أهل البلدة التي حرمتهما الوصال، و كان ذلك العصفور في مشواره الليلي يشدو و يترنم فيحرم أهل البلدة النوم، ثم لعنته الآلهة فصار شوكةً تطعن خاصرة الكائن العاشق، فلما توارث العشاق ذلك و لم يردعهم ذلك جعلته الآلهة غصة في حلوقهم ثم شهقة و جعلته نفساً حاراً يتنفسه الكائن العاشق ثم يسقط مغشياً عليه، فلما لم يمتنعوا من توارث الشوق المصاحب للعشق جعلته خليطاً من ذلك كله، فما من كائن عاشق على وجه الأرض إلا و ذاق من ويلات الشوق نيراناً حامية لا تبرد إلا بلقاء المعشوق، و ذهب المتطرفون منهم مذهباً صعباً لا يرتقى فقال قائلهم: (كل شوق يسكن بملاقاة المعشوق لا يعول عليه)، كان الشوق مخلوقاً من طينة الحنين فتمثلت فيه بعضاً من غربتها و نبلها و حميمتها الملتصقة بجدار القلب.

و تنتاقلت سيرة هذا العصفور مع طائرة خاطفة تسمى "الفضيحة" فما تنقل الشوق في فضاء إلا و تمشت معه الفضيحة رفيقة تلحقه حيثما حلّ، و مع أن أن أهل بعض البلدان المتعجرفة التي تحرم العشق سموا الشوق بالسترة فقالوا أن : "الفضيحة و السترة متباريات" إلا أن ذلك الإسم الغريب لم يطغى على الشوق، فظل مفضوحاً رغم محاولات السترة الخجولة لتغطيه، ثم لمّا تحول الشوق من كونه عصفوراً إلى تلك الحالة الغريبة من المشاعر تحولت الفضيحة معه إلى حالة معنوية! فكان الشوق حالة من حالات العري المعنوي التي تفضح الكائن العاشق، و تنتهك خصوصيته فيصير حكاية تتناولها الشفاه المتهتكة و العقول الصغيرة التي لا تدرك جسامة الأمر و جلالته، ذلك أن للحب لغة لا تدركها الكائنات المتلفتة من فضاءه و التي أبتليت بغباء التعقل البشري و المصنوعة من طينة النفاق الإجتماعي، فترى في الشوق مجافاة للذوق الإجتماعي و تمرداً على سور القيم المتسلطة، و لأن تلك القلوب المحرومة من الشوق مغلوب عليها بالتسلط و القهر، تتداول الأمر الفضائحي بشيئ من التلذذ و المازوشية. فكان التحجر و القسوة ملازمتين لكل كائن غير عاشق.


ثم حنّت حبيبتي بشيئ من الرحمة في قلبها، فمن خصائص الكائن المعشوق أن يكون رحيماً بمن يعشقه، فكانت إبتسامتها تطفئ لهيب الشوق و لوعته، ثم ما لبثت أن أخفت إبتسامتها تلك فعاد النيران أشدّ ضراوةً، فعلمت أنه من عادات الكائن المعشوق التجبر و الكبرياء و الفتك بالكائن العاشق، و لا يجري ذلك الأمر كنوع من السادية كما تصوره أشعار الأولين، بل هي عادة جرت عليها القلوب العاشقة في تبجيل شأن المحبوب و عدم القدرة على الحرمان و الفراق، فذهبت تتحايل الأمر بهكذا تصاوير تلقي اللوم على المعشوق و تتصنع اللوعة في قسوته و جفائه، و مما قيل في ذلك ما ورد في الأثر: "محمد معانا ما تغشانا" يقول القائلون و المفسرون أنها قيلت لعصفور الشوق، الذي كان يحلق فوق رؤوس العاشقين تطرد سلطته و سلطانه غير مدركة أنها كلما هشّته بعيداً كلما إزداد إنقضاضه و قوته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جدلية المركز والهامش وإشكال الهوية في السودان

رساله من الشاعر مختار دفع الله الي المواطن ابراهيم الشيخ

نساء على دروب العباقرة